بعد أن هزت الأزمة المالية التي بدأت في أميركا عام 2008 منطقة اليورو أصبح الوضع الطبيعي الجديد في أوروبا يتسم بإدارة الأزمات، وفي الحقيقة توالت الأزمات في أوروبا بعد ذلك، ومن غير المحتمل أن تتغير الأحوال قريبا.

Ad

فقد واجهت أوروبا أزمة مالية، وأزمة اليونان، وأزمة أوكرانيا، وفي أواخر صيف عام 2015 واجهت أزمة اللاجئين، والآن ستقوم المملكة المتحدة التي تعتبر واحدة من أقوى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اقتصاديا وعسكريا، بإجراء استفتاء في 23 يونيو بشأن ما إذا كانت ستخرج من الاتحاد الأوروبي (ما يسمى بريكست)، ويحتمل أن تواجه أوروبا أزمة الانفصال قريبا.

وتفاقمت أزمة الثقة على نطاق واسع في أوروبا ومؤسساتها في معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أدى إلى إحياء الأحزاب والأفكار السياسية القومية وتراجع التضامن الأوروبي، كما أن إعادة تأميم أوروبا في تصاعد، مما يجعل هذه الأزمة أخطر من كل شيء، ويهدد بالتفكك الداخلي.

وقام القادة السياسيون للاتحاد الأوروبي ورؤساء دول الدول الأعضاء وحكوماتها وقادة المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية باتخاذ قرار مصيري عقب الأزمة المالية، ووضعوا ثقتهم بإدارة الأزمة، بدلا من تطوير رؤية لأوروبا واستراتيجية لتحقيق ذلك.

كان من الممكن القيام بالتنازلات الضرورية في إطار إدارة استراتيجية لأوروبا، والتي كان سيترتب عنها بلا شك مخاطر سياسية في جميع الدول الأعضاء، وبدلا من ذلك اختار زعماء الاتحاد الأوروبي الخضوع لواقع الأزمات المختلفة، ووضعوا ثقتهم في صلابة الظروف، لكن هذا النهج النابع من الجبن والمكر، كان له ثمنه أيضا: بالنسبة إلى المواطنين في الاتحاد الأوروبي، فاٍن تحرك هذا الأخير فقط في زمن الأزمة يدل على عجزه، وهو لا يستحق ثقتهم، كما أن ذلك لن يحل مشاكل القارة العجوز، بل سيؤدي ببساطة إلى مشاكل أخرى.

بعد ما يقرب من ستة عقود من التكامل الناجح أصبحت أوروبا تمثل واقعا سياسيا واقتصاديا ومؤسسيا وقانونيا مميزا للحياة اليومية، لكن كل مظاهر أوروبا تعتمد على حيوية روحها وفكرتها الأساسية، وإذا ماتت هذه الفكرة في أوساط المواطنين والشعوب في أوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي سيصل إلى نهايته، ليس مع إثارة ضجة لكن مع صرخة مريرة وطويلة الأمد.

فالأمور لا يمكنها أن تستمر على هذا المنوال، ومستقبل قارتنا في عالم سريع التغير على المحك، كما أن سياسة الخطوات البطيئة لم تعد كافية، فبدون رؤية متجددة لأوروبا ونهج فعال للتعامل مع الأزمات، سيرتفع عدد القوميين الجدد (والقدماء) في القارة، مما سيعرض المشروع برمته للخطر؛ والمبني على التكامل السلمي على أساس سيادة القانون.

وسيحسم استفتاء بريكست الأمر بالنسبة إلى كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على حد سواء، وسيتبع ذلك إما هدنة (كما آمل) أو كارثة تهز الاتحاد الأوروبي، وتجلب كارثة لبريطانيا، لكن مهما يكن قرار البريطانيين، فهناك أزمات عديدة في أوروبا تحتاج إلى معالجة.

وما زالت الأزمة المالية مستمرة؛ لكنها اتخذت شكلا سياسيا جديدا فقط، وأظهرت البرتغال وإسبانيا وأيرلندا أن الأغلبية الديمقراطية لم تعد مستعدة لتحمل السياسة التقشفية كعلاج، كما تقترب الأزمة اليونانية من درجة الغليان مرة أخرى.

وقد ينهار اليورو بالفعل، وعلى الرغم من بوادر الانتعاش الاقتصادي المعتدل في منطقة اليورو، فإن الفجوة بين ألمانيا ومعظم الدول الأخرى في منطقة اليورو آخذة في الاتساع والتعمق، وليس هناك أي حديث عن التقارب في الاتحاد النقدي، ولم يقع لفترة طويلة.

ولكن من الواضح أنه بفشل اليورو سيفشل المشروع الأوروبي كله، فزعماء أوروبا يعرفون أن اليورو لا يزال غير قادر على مقاومة الأزمات، رغم التحسينات التقنية التي تحققت خلال الأزمة السابقة، وما لم يتم التوصل إلى حل وسط متجدد بين ألمانيا ودول أخرى في منطقة اليورو، فلن ينجح أبدا. في الواقع هذا يعني إصلاح منطقة اليورو على أساس تكامل سياسي أعمق، لكن من الواضح أنه ليس مكسباً صغيرا.

الأمر نفسه ينطبق على الأمن المشترك في الاتحاد الأوروبي، وعلى حماية الحدود الخارجية، وإصلاح سياسة اللاجئين الأوروبية، وهنا أيضا تتطلب القيادة السياسية الفعالة رؤية متجددة من أجل أوروبا موحدة في القرن الحادي والعشرين، ما يمكن أن تقدمه، وكيف ينبغي أن تُشَكل، وما المؤسسات والسلطة التي تتطلبها.

لا داعي للخوف من الأزمات في أوروبا، فالأزمات تحرك الأمور وتتيح الفرص للاتحاد الأوروبي للمضي قدما ليصبح أقوى، شريطة أن يواجه المخاطر السياسية المصاحبة دون خوف.

وبمجرد أن تصدر المملكة المتحدة قرارها في يونيو المقبل، يتعين على أوروبا تقديم ردها بشجاعة وبرؤية وحلول حقيقية، فالقومية ليست هي الحل، والأوروبيون الصادقون وحدهم من يمكنهم ضمان مستقبل سلمي ومزدهر لقارتهم.

* يوشكا فيشر وزير الخارجية ونائب المستشار الألماني في الفترة ما بين 1998 و2005، وكان قياديا في حزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 سنة.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»