{لا تهدروا موازنة الدولة على الفن والثقافة، وأنفقوها على الفقراء والمحتاجين، فهم الأولى والأجدر»!

Ad

صيحة عجيبة باتت تتكرر كثيراً في الآونة الأخيرة، خصوصاً في أوساط المتطرفين، والكارهين لأي شكل من أشكال الوعي والتنوير، كذلك المُدركون لخطورة الدور الذي تؤديه الثقافة، عموماً، في حياة الأمم والشعوب، إذ إن الدعوة إلى إقصاء الفن والثقافة، وتوجيه الأموال المخصصة لهما إلى المشاريع التنموية، وبناء «مساكن للفقراء»، وإصلاح المرافق والبنية التحتية، ليست سوى «قولة حق يُراد بها باطل»، بل هي محاولة رخيصة تعكس رغبة خبيثة في تكريس «الجهل»، الذي يسعى «دعاة التطرف» إلى وجوده، ودرء أية محاولة لتجفيف منابعه!

ربما يمكن النظر بعين الاعتبار إلى الأسباب التي تدفع حزباً رجعياً تكفيرياً إلى إطلاق، وتعميم، مثل هذه الأباطيل والترهات، بحجة أنها تمثل جزءاً أصيلاً في «الاستراتيجية»، التي يقوم عليها، و»الأيديولوجية»، التي تضمن بقاءه. لكن كيف تكون الحال عندما تصدر مثل هذه الدعاوى من فيلم سينمائي لمخرجة شابة اختارت العمل في الفن بمحض إرادتها، وقدمت الفيلم، الذي يتبنى هذه الخزعبلات، مدعومة من مؤسسة ثقافية تتبع أكاديمية فنية تابعة، هي الأخرى، لوزارة الثقافة!

هذا ما حدث في الفيلم التسجيلي القصير «عين الحياة» (24 دقيقة)، الذي أنجزته وفاء حسين، كمشروع تخرج في السنة الثالثة بالمعهد العالي للسينما، ورشحته إدارة المعهد لتمثيلها، ومصر، في مسابقة الأفلام التسجيلية القصيرة في الدورة 18 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة. فالفيلم يبدأ بلافتة كبيرة تبشر بقرب انتهاء مشروع المتحف القومي للحضارة المصرية، لكن صوتاً مصاحباً لظهور اللوحة تقول صاحبته «ده ما يرضيش ربنا... يدوروا على الشوارع الأول»، أي أن الدولة ينبغي أن تنظر إلى الأولويات، ووقتها ستدرك أن الإنفاق على تحسين الطرق ورصف الشوارع أكثر أهمية من تمويل مشروع كالمتحف القومي للحضارة المصرية، وتأكيداً لهذا المعنى الساذج يتم القطع (مونتاج بسنت حنفي) على مجموعة من الصبية يستحمون عراة في النيل، وتنتقل الكاميرا (تصوير محمد معتمد) إلى سكان المنطقة العشوائية «عين الحياة»، التي تسكنها 200 أسرة، تترك المخرجة لبعضهم الفرصة كي يجأروا بالشكوى من الفقر والإهمال والتجاهل الذي يجدونه من الدولة، حيث البيوت الغارقة، بفعل المياه الجوفية، ومشاريع تحليل التربة التي لا تخدم، حسب قولهم، سوى الأغنياء مالكي الأرض المميزة على شاطئ النيل، أو قاطني البنايات التي تحاكي ناطحات السحاب!

منذ اللحظة الأولى تُعلن المخرجة/ الطالبة وفاء حسين، وهذا حقها، الانحياز والتعاطف إلى هذه الشريحة المهمشة، ولا تكاد تسمع صوتاً عاقلاً غير صوت أبنائها، لكنها لا تجرؤ أن تسأل أحدهم أو جميعهم عن مشروعية استيطانهم هذه المنطقة، وكيفية الاستيلاء عليها، وتحويلها إلى منطقة عشوائية، بل راحت تتبنى، بطيش المراهقين، ونزق النشطاء السياسيين، دعواهم المُطالبة بالكف عن دعم المشروعات الثقافية، وتوجيه الموازنة المخصصة لها للفقراء. ولم تكتف بهذا، إنما أطلقت العنان لأحدهم، وهو بائع أنابيب سابق، ليقول: «خلونا تبع إسرائيل أحسن فإسرائيل رحمة شوية علينا»، فيما اعترفت عجوز، بكل فخر، أنها والأهالي «بنسرق الماء والكهرباء» وتضيف: «ده حقنا... الناس حتاكل ولا تشرب ولا تدفع الكهربا»، وتبكي أم ولديها، الذين ماتوا نتيجة سقوطهم في النيل، وتتساءل: «المشاريع دي علشان إيه؟». وكالعادة يصرخ أحدهم: «أين حقوق الانسان؟ الفقراء اللي زينا بينداسوا بالجزم»!

أمر طبيعي أن ترى الطالبة/ المخرجة في ما فعلته، وقدمته، في فيلم «عين الحياة»، فعلاً ثورياً، وانحيازاً إنسانياً، ولا ترى فيه تحريضاً جاهلاً، وتأليباً للطبقات ضد بعضها البعض، وهو ما أكدت عليه بالنص في تقديمها الفيلم بالكتاب الرئيس للمهرجان قائلة بالحرف: «بيوتهم غارقة في المياه، رغم أن هناك مباني أخرى راقية تحيط بهم كما أن هناك ملايين تنفق على تشييد متحف بالقرب منهم». لكن ما استوقفني أن الطالبة/ المخرجة وجهت الشكر، في عناوين النهاية، إلى ما يقرب من خمسة أساتذة بالمعهد، بما يعني أنهم، جميعاً، وافقوا على رؤيتها، وأيدوها في اختيار معالجتها، وأشرفوا على مشروعها، رغم أن أبسط تعريف الإشراف يقول إن مهمة «الأساتذة» مناقشة «الطالب» في رؤيته، وتوضيح بعض ما خفي عليه من معلومات في إطار المشروع الذي اختاره، بالإضافة إلى تقنين العشوائية التي تجعل هذه الرؤية تنحرف عن مسارها، بفعل المرحلة العمرية، واندفاع الشباب، وتأثره بالمناخ السياسي، وربما «الأيديولوجية» التي تسيطر على تفكير الغالبية منهم، ومن ثم لا تتحول «مشاريع التخرج» إلى «مشاريع تحريضية» تفتقد الموضوعية، وتفتقر إلى العقل والروية. وحديثي هذا لا يعني مصادرة رؤى الطلبة، وتحجيم جنونهم المطلوب في كل الأحوال، لكنني أحذر من الطيش المبني على الجهل، والانحياز إلى الفقر على حساب الثقافة، بحجة أن هذا «عين الصواب»!