التنمية ليست مشاريع إنشائية
دول كثيرة توضح تجاربها أن عدم تجديد نهج الإدارة العامة وتطويره على أسس ديمقراطية، أو الاستماع إلى إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل تمرير سياسات اقتصادية منحازة اجتماعياً، لا ينتج عنهما سِوى استهلاك جهود المجتمع وأمواله العامة ووقته الثمين في سياسات عامة لا منفعة لها على أرض الواقع، وخلق بيئة خصبة لاضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي.
على الرغم من مضي ست سنوات على بدء تنفيذ "خطط التنمية" الحكومية التي قالت عندما أُقرت وبدأ تنفيذها عام 2010 إن المبالغ المالية المرصودة لها بحدود 37 مليار دينار، فإن المشاكل العامة هي ذاتها، سواء في القضية الإسكانية، التي قيل إنها ستكون في مقدمة الأولويات، أو في التعليم والصحة والخدمات العامة، وهو الأمر الذي يؤكد من جديد ما سبق أن ذكرناه، بأن خطط التنمية الإنسانية الحقيقية ليست مجرد تجميع أوراق ومستندات من عدة جهات حكومية ووضعها في ملف واحد يطلق عليه "خطة التنمية"! كما أنها ليست مشاريع إنشائية لترميم الطرق القديمة والمباني المهترئة التي لا يستفيد منها سِوى شركات المقاولات والإنشاءات العالمية ووكلائها المحليين. خطط التنمية الإنسانية المستدامة ينبغي أن تكون جزءاً لا يتجزأ من مشروع متكامل لدولة ديمقراطية حديثة يشارك الجميع، مثلما توضح نصوص الدستور وروحه، في صياغته وإقراره وتنفيذه، ثم تحمّل نتائجه وآثاره. ومشروع الدولة الحديثة يحتاج إلى توافر إرادة سياسية جماعية، وبدونها لا يمكن الحديث عن خطط تنمية إنسانية مستقلة وحقيقية، بل مجرد توجهات حكومية تعتمد في إدارة الدولة على أساليب قديمة ومستهلكة تجاوزها العالم الذي يتجدد ويتغير باستمرار، أضف إلى ذلك أن خطط التنمية الإنسانية المستقلة ليست اقتصادية فقط مع أهميتها، بل خطط شاملة اجتماعية وسياسية وثقافية ينبغي ألا تعتمد على استشارات مدفوعة الثمن تقوم بها جهات خارجية معروفة بتوجهاتها الاقتصادية وانحيازاتها الاجتماعية، مثل استشارة "توني بلير" الشهيرة، واستشارات "ماكينزي" وصندوق النقد والبنك الدوليين، مما يجعلها خططاً أو رؤى فنيّة بعيدة عن الواقع الاجتماعي-السياسي وظروفه وملابساته، وتأتي على شكل أوامر تسقط فجأة من الأعلى من دون أن يكون لها ظهير شعبي مشارك في صياغتها الأولية وإقرارها النهائي كي يلتفّ حولها الناس ويتبنوها ويدافعوا عنها.وتجارب دول كثيرة توضح أن عدم تجديد نهج الإدارة العامة وتطويره على أسس ديمقراطية، أو الاستماع إلى إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل تمرير سياسات اقتصادية منحازة اجتماعياً، لا ينتج عنهما سِوى استهلاك جهود المجتمع وأمواله العامة ووقته الثمين في سياسات عامة لا منفعة لها على أرض الواقع، وخلق بيئة خصبة لاضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي.أما محلياً فلا داعي للرجوع إلى التاريخ كي نحسب الفرص الثمينة التي ضاعت علينا منذ بداية عهد الدولة الدستورية، يكفي فقط أن نعرف حجم الجهود العامة التي بُذلت منذ إقرار ما سُميّ "خطة التنمية" وتنفيذها عام 2010، وعن كمية الأموال العامة التي صُرفت ووقت المجتمع الذي تم هدره، ثم نقارن كل ذلك بما تحقق فعلياً على أرض الواقع، وعندئذ سندرك جميعاً أن استمرار الوضع السياسي الحالي كما هو دون إصلاح وتجديد لن يجعلنا نواجه عجزاً مالياً فحسب، بل سيقودنا أيضاً إلى أزمة عامة على المستويات كافة.