«تاريخ الكويت»... في طبعة جديدة (3-3)
أشاد المؤرخ "الرشيد" في حديثه عن الواقع الثقافي بالكويت في القسم الأول من كتابه، بنهضة "الحركة الفكرية والعلمية اليوم"، وذكر من بين أسباب هذه النهضة أربعة هي:1 - تعلق الكويتيين بأذيال الصحف واشتغالهم بمطالعتها والاهتداء بنبراسها.
2 - الآراء الحرة والنصائح الثمينة التي كان يبثها أهل العلم والفضل من الغرباء الذين يتخذون ساحة الكويت ميداناً لتعاليمهم الراقية وأفكارهم الحية، وفضحهم هناك دسائس أهل الغش والخداع، فبذلك اقتلعوا من أذهان الكثيرين أدغال الجمود وخضدوا أشواك التعصب وبذروا البذور الطيبة الصالحة. وكان أول من حاز قصب السبق في هذا المضمار الأستاذ الكبير العلامة المحقق السيد رشيد رضا، فإنه في السنة التي زار فيها الكويت أحدث انقلابا بين أهلها وتأثيرا عظيما بخطبه الرنانة التي قام بها في أكبر جامع، فتاب إلى الله الكثير وكذا ازدادت الرغبة في مجلة "المنار" بعد أن لم يكن لها من المشتركين إلا اثنان أو ثلاثة. وقال الرشيد إن مما ضاعف تأثير رشيد زيارة أساتذة آخرين كالشيخ محمد الشنقيطي والشيخ حافظ وهبة، حيث تولى الثاني مهام تعليمية في المدرستين، "معلما لكثير من العلوم العصرية كالهندسة والجغرافيا وغيرها"، وهي العلوم التي تحرك الأذهان وتشجع على الابتكار وغير ذلك.3 - ظهور شبان منورين امتلؤوا حماسة وغيرة، ولهذا الغرض أسسوا المكتبة الأهلية والنادي الأدبي وشرعوا يقرعون الأسماع بالمقالات الضافية على صفحات الجرائد.4 - تأسيس المعاهد العلمية التي شرب الكويتيون من مناهلها عذبا زلالا كالمدرسة المباركية وأختها المدرسة الأحمدية، فمن آفاق هاتين المدرستين سطعت الأفكار الحرة والآراء الناضجة، وانتشرت أشعة مبادئ العلوم التي كانوا يحرمونها- أي المتشددين والمتعصبين- كالجغرافيا والهندسة والتاريخ. وأضاف الرشيد: "أما مبادئ الفقه والنحو والصرف فهو وإن كان شائعا هناك- أي في الكويت- قبل هاتين المؤسستين، لكنه كان محصورا من أهل اللحى، أما الآن فقد كان ميسورا حتى بين الكثير من الصغار الذين يوجد فيهم من يفوق ذا اللحية العريضة والعِمَّة الكبيرة". (ص 165).ويرى القارئ في هذه النقاط الأربع، كم لا تزال مثل هذه القضايا وهذه المصطلحات اللغوية والتعبيرات الجريئة، حية ومؤثرة في الواقع الثقافي والتعليمي الكويتي، رغم مرور نحو قرن على زمن الرشيد!ونحن لا نعرف تفاصيل الإحراجات التي تسببت بها مثل هذه المواقف للمؤرخ، فقد كان هو نفسه شيخ دين و"خريج شريعة" من بغداد، وصاحب "عِمَّة" أو عمامة، ولديه آراء محافظة ويعتبر نفسه سلفيا، إلا أنه كان منقسما بين المحافظة والحداثة، والموروث والتجديد، والأفكار التقليدية والتوجهات العصرية، حيث كان يشيد بالثقافة الإصلاحية التي تنشرها الصحافة وبعض الكتابات، بل على الصعيد الشخصي لم يجد بأسا في مرافقة الشاعر صقر الشبيب الشديد الانتقاد للمحافظين والمتشددين، والذي كان بدوره يعاني اتهامات الخروج من الدين والتشكيك في سلامة العقيدة.ويمكن اعتبار الجزء الأول من كتاب الرشيد أولى كتابات مثقف كويتي يتصارع مع التزمّت الديني وبعض أشكال أو بدايات الإسلام السياسي. ولم يحاول الرشيد في كتابه إرضاء المحافظين لصالح نشر الكتاب وبيعه، ولم يتراجع أمام الضغط الاجتماعي والديني في مجتمع الكويت عام 1926، بل مضى يهاجم المتزمتين شعرا ونثرا، ويستخدم ضدهم أقوى العبارات الممكنة! وهذا ما لاحظه على الكتاب حتى مثقفو العراق كالباحث "رفائيل بطي" في رسالته إلى الشيخ في 10 تموز (يوليو) 1926 مشيدا بكتاب "تاريخ الكويت" فكان مما قاله: "لم أتلق- وايم الحق- كتابا بالفرح الذي تلقيت به كتابك الفريد تاريخ الكويت، ولا ساورتني أفكار وأحلام لذيذة إزاء مؤلف كالذي فعله فيّ كتابك. عملك خدمة قومية كبيرة وعرفاني أنك قد عززت به فكر الجامعة العربية دفعني إلى السرور والإمعان في النظر إلى المستقبل وقلبي مفعم رجاء.قد أطلعتنا على تاريخ بلد من صميم بلاد العرب لا تعجب إذا قلت إنه كان بعيدا عنا فقربته، ومجهولا فعرفته، ثم حببته إلينا وكشفت لنا خفايا أحواله وعددت مزاياه، فما قرأنا كتابك حتى صرنا ننظر إلى القطر الشقيق نظر الأخوة الحقة.وقد سلكت في تأليفه مع كونك المقدام المجلي سبيلا يرضاه المؤرخون المصريون، فتبسطت في ذكر أحوال الكويتيين الاجتماعية وإن كنت أهملت في نصف المجتمع، فلم تخص المرأة الكويتية بفصل بل بفصول، فكأنك أطلعتنا على صفحة من المجتمع الكويتي وتركت الصفحة الثانية مظلمة غريبة. حسنا فعلت في توسعك في تاريخ الكويت الأدبي إلا أنك أغرقت في ذلك فصحّ أن يكون الكتاب كله ممثلا لأدب الكويت الحديث.وإني لأحمد فيك النزعة الحرة المتمشية بين سطورك والصرخة الأليمة التي يُسمعنا إياها كبار المفكرين الغيارى مما ساد على المجتمع العربي من الخمول والانحطاط، وما يتبع هاتين العاهتين من التمسك بالخرافات والشعوذات التي تميت نفس الأمة وتدخلها في خبر كان. من أجل ذلك قد وقفت عند وصفك الدجالين في الكويت وآثارهم السوداء وقفة معجب بجرأتك، معظّم لغيرتك على حياة بلدك، بل بلدنا نحن الذين تجمعنا الضاد في مختلف الأقطار والجهات".وكانت للأديب "رفائيل بطي" (1901-1956) ملاحظات في التوثيق والفهرسة التفصيلية، وهذا ما نراه في الطبعة الجديدة تحت إشراف الأستاذ خالد عبدالقادر الرشيد، الذي أضاف للكتاب فهارس تفصيلية متعددة تسهيلاً للبحث، بلغت في مجموعها 10 فهارس.وألحق "خالد الرشيد" بكتاب "تاريخ الكويت" دراسة قيمة للباحث د. "عماد العتيقي" بعنوان "بين الكوت والكويت ومعالجة إشكالية التأسيس"، استعرض فيها "الروايات التي وردت بشأن تسمية الكويت ومحاولة التوفيق بينها من أجل الوصول إلى استنتاج محدد حول تسميتها وعلاقتها بالكوت وموقعه وتاريخ تأسيسه، وذلك باعتبار كل من الكوت والكويت ظاهرة عمرانية حضرية".ويمكن اعتبار دراسة د. العتيق بداية واستهلالا لدراسات مستقلة عن تأسيس مدينة الكويت وعمرانها وسكانها وتوسعها مع الهجرة وتفاصيل امتدادها من واقع تشكل الأحياء والأسوار وغير ذلك.ويبدو من حديث الباحث د. العتيقي عن التل المستطيل المحاذي للساحل وهو البهيته، الذي تقول المراجع إنه قُدم هدية لآل الصباح ومن معهم، مقارنة بكوتين آخرين، أن تاريخ تأسيس وتشييد مدينة الكويت قد يكون ميداناً بكراً للبحث التاريخي لم ينل حظه الوافي منه بعد.وقد خصص الأستاذ خالد ملحقاً للصور حاول فيه نقل صور الشخصيات المذكورة في النسخة الأصلية، "إلا أن عدم نقاء الصور أجبرني على الاستعانة بصور أخرى للشخص نفسه مع الاحتفاظ بالصور المنشورة في الكتاب الأصلي". ولا شك أن الصور المنشورة في الكتاب واضحة، ولا أدري إن كانت طباعتها على ورق مصقول ستزيد من وضوحها أم أن توضيحها عمل فني يحتاج إلى متخصصين في الوسائل الحديثة، وعلى كل حال فما قام به المحقق الناشر كاف وواف بالغرض، وقد أضاف الكثير لقيمة الطبعة الجديدة ولتلبية اهتمام القارئ.إن إعادة نشر هذا السفر التاريخي بحاجة اليوم إلى أن يكتب عنه باحثو التاريخ الخليجي والكويتي، ويقارنوا رؤية الرشيد مع ما في المراجع في الدول المجاورة من معلومات بخصوص الأحداث التي أشار إليها الرشيد في زمنه.يقول د. يعقوب الحجي عن عبدالعزيز الرشيد إنه كان "واسع الاطلاع، كثير الأسفار، حتى غدا أكبر شخصية عرفت خارج الكويت، مع أنه لم يكن من عِلْية القوم ولا من تجارها المعروفين، لقد كان صاحب كلمة وقلم، وهذا ما خلده على مر السنين". ويضيف: "كان الشيخ عبد العزيز رجل دين، ومصلحاً اجتماعياً، ومدرساً وإمام مسجد، وشاعراً وخطيباً وصحفياً وداعية سياسياً، ومؤرخاً ورحالة، كان متعدد المواهب قلّ أن تجد له في الكويت نظيراً. واحد وخمسون عاماً هي كل ما أتيح للشيخ عبد العزيز الرشيد من فسحة في هذه الحياة، ولكن غيره قد يحتاج إلى ضعف هذه السنوات لكي يقوم بما قام به من أعمال". (ص616). لم يذكر الناشر المحقق اسم المطبعة التي أعدت الكتاب ولا مكانها ولا عدد النسخ المطبوعة من هذه الطبعة الحديثة، وإن كان قد أحسن اختيار نوع الورق الخفيف الوزن ليحمل على صفحاته كل هذا التاريخ والشخصيات... والأحداث الجسام!ختاماً للأستاذ خالد كل الشكر والتقدير على هذا الجهد، وهذا العمل المتميز الذي يليق بالمؤرخ الكبير، والذي جمع من جديد قراء "تاريخ الكويت" حول مؤرخهم المحبوب عبد العزيز الرشيد.