غادر الكويت خلال الأيام الماضية وفد قضائي رفيع برئاسة الدكتور جلال ندا رئيس مجلس الدولة، ويضم الوفد المصري المستشارين يحيى الدكروري ومحمد مسعود نائبي الرئيس، بعد اجتماعات اتحاد المحاكم الإدارية للدول العربية، الذي يترأسه رئيس مجلس الدولة المصري.

Ad

وقد شرفت بدعوتي إلى حضور حفل العشاء الذي أقامه قضاة مجلس الدولة المصري في الكويت في فندق راديسون ساس، باعتباري أحد قدامى قضاة مجلس الدولة السابقين، فكانت مناسبة لأناشد فيها رئيس المجلس الدكتور جمال ندا، في مداخلة لي بعد الكلمة التي ألقاها، إطلاق اسم الدكتور عبدالرزاق السنهوري على الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري التي كان يترأسها، وقد شهدت هذه الدائرة أحكاما أصدرتها صيانة لحرية الرأي والتعبير وحماية لحرية الصحافة والحريات العامة والحرية الشخصية.

وكان الدكتور السنهوري رئيسا لمجلس الدولة، وتم عزله بعد الاعتداء الدامي عليه في 29 مارس سنة 1954، وهو عاكف على دراسة ملف إحدى القضايا، وإذا كان المقال الصحافي لا يتسع لإيراد جلائل الأحكام التي حواها قضاء مجلس الدولة منذ إنشائه في عام 1946 فقد رأيت بمناسبة زيارة الوفد القضائي إيراد بعضها تحية لهذا القضاء الشامخ الذي أصبحت أحكامه تدوي في سمع الزمن وتنطق بأشرف قضاء.

مجلس الدولة ودستورية القوانين

لم يكن قد مضى على إنشاء مجلس الدولة سوى عام ونيف، عندما أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة د. محمد كامل مرسي أول حكم في تاريخ القضاء المصري بتاريخ 10/ 2/ 1948 يقضي ببسط رقابة القاضي على دستورية القوانين، ولم يكن للقضاء المصري سابق عهد بهذه الرقابة، فقد كان القاضي يطبق القانون على النزاع المطروح عليه، ولو كان القانون غير دستوري.

تأسيسا على ما جاء في أسباب هذا الحكم من:

"أن استعمال السلطات لوظائفها ينظمه دائماً تعاون بينها على أساس التزام السلطات للمبادئ التي قررها الدستور، فالمبدآن متلازمان يسيران جنباً إلى جنب ويكمل أحدهما الآخر، وبغير ذلك لا تنتظم الحياة الدستورية، لأنه إذا أهدرت إحدى السلطات أي مبدأ من مبادئ الدستور فإنها تكون قد خرجت عن دائرة المجال المحدد لاستعمال سلطاتها، وإذا جاز لها أن تتخذ من فصل السلطات علة تتذرع بها في إهدارها للدستور لا ينتهي الأمر إلى فوضى لا ضابط لها، مما يقطع بأن التزام كل سلطة من تلك السلطات مبادئ الدستور هو خير الضمانات لإعمال مبدأ فصل السلطات، بل لدعم البنيان الدستوري جميعه.

وأن المحكمة تملك الفصل عند تعارض القوانين في أيها هو الواجب التطبيق، إذ لا يعدو أن يكون هذا التعارض صعوبة قانونية، مما يتولد عن المنازعة، فتشملها سلطة المحكمة في التقدير وفي الفصل، لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع.

وإنه يتعين عليها عند قيام التعارض أن تطرح القانون العادي وتهمله وتغلب عليه الدستور وتطبقه بحسبانه القانون الأعلى والأجدر بالاتباع، وفي ذلك لا تعتدي على السلطة التشريعية ما دامت المحكمة لا تضع بنفسها قانوناً".

ولعله من الضروري أن نشير إلى واقعة قد لا يعلمها الكثيرون؛ أن الدكتور محمد كامل مرسي رئيس الدائرة التي أصدرت هذا الحكم، كان يشغل منصب وزير العدل عندما مثل أمام جلالة الملك ليقدم لجلالته مشروع قانون إنشاء مجلس الدولة، وبعد أن قام جلالته بتوقيعه طلب منه الوزير أن يحقق له أمنيته في أن يكون رئيسا للمجلس، وتعجب جلالته لوزير يتخلى عن منصبه ليترأس مجلس الدولة.

مجلس الدولة وحرية الصحافة

وقد سجل الدكتور عبدالرزاق السنهوري، بأحكامه التي أصدرتها الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري، التي كان يرأسها قبل رئاسته لمجلس الدولة في عام 1949 وبعدها، أعظم الأحكام التي صانت حرية الرأي وحرية التعبير، ونجتزئ منها حكمه الصادر في الثامن عشر من مارس سنة 1947، القاضي بإلغاء قرار الحكومة برفض التصريح بإصدار جريدة لسان الوفد (الحزب المعارض)، وحين اعتلى حزب الوفد الحكم أصدر مجلس الدولة في يناير 1951 حكمه الشهير بإلغاء قرار حكومة الوفد بإلغاء إحدى صحف المعارضة (مصر القناة) فأنصف بالحكمين حرية الرأي من الحكومة، حين كان حزب الوفد يمثل المعارضة وأنصف منه المعارضة حين اعتلى الحكم.

حرية الصحافة ركن في الدستور

وقد أسس الحكم الأخير قضاءه على أن المادة (15) من الدستور والتي نصت على أن "الصحافة حرة في حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي"، هي مادة نافذه بذاتها دون حاجة إلى نصوص تشريعية ترسم لها حدود التطبيق، والدستور بهذه المادة يخاطب الأمة والسلطات جميعا، مجلس الوزراء أعلى مراتب السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.

وأن المحكمة تقيم حرية الصحافة على ركن من أركان الدستور، باعتبار أن حرية الصحافة هي السياج لحرية الرأي والفكر، وهي الدعامة التي تقوم عليها النظم الديمقراطية الحرة، إلا أن المحكمة أهابت بنقابة الصحافيين التي انضمت في الدعوى إلى المدعي، أن تنتبه إلى المسؤوليات الخطيرة التي تلقيها حرية الصحافة على عاتق النقابة، وإلى وجوب اضطلاعها بهذه المسؤوليات لوجه الوطن والمصلحة العامة، وفي حدود القانون والنظام العام، فبقدر الحرية تكون المسؤولية، وإذا كان الدستور قد كفل للصحافة حريتها، وعصمها من تعسف الإدارة، فذلك لأنه افترضها صحافة رشيدة، لا تميل مع هوى، ولا تتجه إلا إلى مصلحة عامة.

لمسة وفاء لا رد اعتبار

وأزعم قبل أن أختتم هذا المقال بأن اقتراحي بإطلاق اسم السنهوري على الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري، الذي ناشدت فيه رئيس المجلس، ليس ردا لاعتباره، بعد الاعتداء الدامي عليه في 24/ 3/ 1954، وما أعقب ذلك من عزله من رئاسة المجلس، أو تخليدا لذكراه، فاسمه يدوي في سمع الزمن، قاضيا لا يشق له غبار، ومشرعا بارعا ترك بصماته على كل مادة من مواد القانون المدني علما وصياغة، وقد رجع إلى 20 تقنينا مدنياً في شتى أنحاء العالم، ليختار من النظريات التي تبنتها هذه القوانين، ما يناسب مجتمعاتنا، ليمصر ثم يعرب هذه النظريات في لباقة وحذق ومهارة، وأذكر أنني عندما كنت عضوا في اللجنة التي وضعت القانون المدني السوداني، عجزنا والإخوة السودانيين أن نغير فيه شيئا.

الشريعة الإسلامية والقانون المدني

وقد أدخل د. عبدالرزاق السنهوري لأول مرة الشريعة الإسلامية في النظام القانوني الوضعي، فاعتبرها مصدرا من مصادر القانون، بل استطاع بعلمه العزيز تخريج النظريات الغربية التي تبناها في القانون المدني، على أحكام هذه الشريعة، فأصبح القاضي في أحكامه التي يصدرها بين اثنتين إما أن يطبق أحكام الشريعة الإسلامية ذاتها، وإما أن يطبق أحكاما لا تتناقض معها، وذلك قبل النص في بعض الدساتير العربية على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع، ولا تخلو مكتبة عامة أو خاصة لدى رجال القانون من مجلداته الأحد عشر في مؤلفه "الوسيط في القانون المدني"، الذي طبعت منه مئات الطبعات، ولا يوجد له مثيل في كل شروح القانون المدني التي جاءت بعده ونهلت منه.

ولنا حديث نستكمل به قضاء مجلس الدولة الشامخ بالنسبة إلى كل الحقوق والحريات التي كفلها الدستور.