كيفية الحفاظ على التراث من خلال الآثار والصور الفوتوغرافية، القاسم المشترك بين المعرضين الجديدين اللذين ينظمهما متحف سرسق في بيروت (12 مايو- 1 أغسطس)، الأول بعنوان «تصنيف الأضاليل: حياة أجسام خامدة» للفنان علي شري، والثاني «عبر الغيوم: لقطات جويّة مختارة من مجموعة فؤاد دبّاس للصور».
إذا كان الأول يفرد مساحة لإبراز أهمية الآثار في سرد الروايات التاريخية ويطرح سؤالين رئيسين: ما هي القصص التي ترويها الأشياء؟ وما الرابط بين القطع الأثرية القديمة والثقافات المعاصرة ومنظومات القيم؟ فإن الثاني يبيّن موقع الصورة الفوتوغرافية في تحديد مسارات مهمة في التاريخ، وتغيير وجه الحروب في بعض الأحيان.يطرح عمل علي شري الجديد، عبر استخدام مواد جُمِعت من حفريات أثرية ومتنزهات للحياة البرية ودور مزادات علنية حول العالم، أسئلة مهمة وآنية حول القيمة التي نضفيها على القطع الأثرية التاريخية، وتواطئها في تأجيج النزاعات، وتواطئنا في حياتها وموتها.من متنزه للحياة البرية في صحراء الإمارات العربية المتحدة إلى موقع حفريات في شمال السودان، يأخذنا التركيب السمعي البصري «متحجرون» في رحلة ترسم مسار حياة الأغراض الأثرية واندراجها في خطاب القيم والأصالة.ينظر التركيب «كسور» في القيمة السوقية للتاريخ، عبر جمع قطع أثرية، حقيقية وزائفة على السواء، من دور مزادات علنية في باريس. هنا ينعكس علم التأريخ من خلال رغبتنا في الاستحواذ على أشياء مادّية، وبناء قصة، حول العالم، عبر الأصالة والتاريخ والأغراض. يتخلل المعرض عرض فيلم «الحفار» في مواعيد منتظمة، وهو صُوّر في صحراء الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، ويواكب الحياة اليومية لسلطان زيب خان، الباكستاني الذي تولّى حراسة أنقاض مقبرة تعود إلى العصر الحجري الحديث، على امتداد عشرين عاماً.خلال الافتتاح، يجري علي شري نقاشاً مع رئيسة قسم البرامج والمعارض، نورا رازيان، حول مجموعة الأعمال الجديدة التي يتقصّى فيها العلاقة بين بناء الروايات التاريخية وتداول القطع الأثرية بتحفيز من السوق.علي شري فنان تشكيلي يعمل عبر مجالات الفيديو، التجهيز، والطباعة. تشمل معارضه الأخيرة "الزمن هو خارج المفصل”، مؤسسة الشارقة للفنون، الإمارات العربية المتحدة (2016)، "الرغبات والضرورات”، متحف برشلونة للفن المعاصر (ماكبا)، إسبانيا (2015)، "خشية التقاء البحرَين”، متحف وارسو للفن الحديث، بولندا (2015)، ماري ميدي تيرا”، متحف "إس بالوارد موزيو دار موديرن إي كونتمبوريني دي بالما”، إسبانيا (2015)، و”أغاني الخسارة وأغاني الحب”، متحف غوانغجو للفنون، كوريا الجنوبية (2014).عبر الغيومظهرت فكرة التقاط صور من الجو واستخدامها لوضع الخرائط، عام 1885 في كتاب أندرو (Andraud) عن المعرض الكوني الذي نُظِّم في العام نفسه. أحدثَ المصوّر الفرنسي، نادار، منذ محاولاته الأولى لالتقاط صور جوية انطلاقاً من المنطاد في ستينيات القرن التاسع عشر، ثورة في عالم التصوير الفوتوغرافي وعلوم الطبوغرافيا.اتسم مشروع المصوّرين الأوائل من الجو بالجرأة، وواجهتهم صعوبات تقنية مرتبطة بعمليات التصوير، فضلا عن الأحوال المناخية، ظروف الطيران ارتجاجات آلة التصوير، ومعوّقات أخرى.خلال الحرب العالمية الأولى، أصبح اللجوء إلى التصوير الجوي أمراً معتمداً في الأوساط العسكرية. في بلدان المشرق الخاضعة للانتداب الفرنسي، وفّرت الفرقة 39 في سلاح الطيران في جيش المشرق (مقرها في منطقة رياق -لبنان) دعماً جوياً للسيطرة على بعض المناطق، أو وضع خرائط جغرافية، أو إنشاء شبكة طرقات.تجسّد ألبومات عدة في مجموعة فؤاد دباس المسارات التي سلكتها أسراب الطائرات المختلفة التابعة للفرقة 39 في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته. المشاهد نفسها في معظم الأحيان: كان المطلوب تحديد مواقع الموانئ، المدن والقرى، الجسور وسواها من البنى التحتية، القصور والقلاع الواقعة على تلال يتعذّر الوصول إليها، المعالم الأثرية لإدراجها على الخرائط، أو تحديد تحرّكات البدو في صحراء سورية.مجموعة فؤاد دباّس للصور هي مقتنيات فوتوغرافيّة تضمّ أكثر من 30 ألف صورة من منطقة الشرق الأوسط – تحديداً لبنان، سورية، فلسطين، مصر، وتركيا – تعود إلى الحقبة الممتدّة بين 1860 وستينيّات القرن العشرين. تكوّنت المجموعة على مدى عقدين من الزمن، وأنشأها رجل كان شغوفاً بتكوين المجموعات، هو فؤاد سيزار دبّاس (1930-2001)، الّذي آمن بأهمّيّة جمع الصور كوسيلة للحفاظ على التراث الثقافي.تُحفظ المجموعة في متحف سرسق بفضل عائلة دباس، وهي تتألّف من بطاقات بريدية وصور مناظر تجسيميّة (ستيريوسكوبيّة)، بالإضافة إلى صور متقادمة مطبوعة بتقنيّة الزلال ورسومات بتقنيّة الحفر وكتب، جميعها تتعلق ّ بمنطقتنا.من بين مقتنيات دباّس ثلاثة آلاف صورة من أعمال "دار بونفيس”، أحد أوّل الاستوديوهات التجاريةّ في الإمبراطوريّة العثمانيّة أواخر القرن التاسع عشر. وتشكّل هذه المجموعة، بمواصفاتها الاستشراقيّة والنمطيّة التجارية، ّجزءاً مهماًّ من مجموعة متحف سرسق، وهي تضيء على الدور المحوريّ الذي أداه التصوير الفوتوغرافي في تطوّر الفن الحديث في لبنان.متحف نقولا سرسقتأسس متحف نقولا سرسق عام 1961، وتميز بمزجه بين التراث والعصرنة. في بداية الأمر، كان عبارة عن قصر فخم شيده نقولا سرسق عام 1912، مشكلا أحد معالم بيروت الحضارية، وقبل وفاته أوصى بتحويله إلى متحف للفنون والثقافة، يستقطب المثقفين والمفكرين والفنانين من لبنان والمحيط العربي والعالم، هكذا كان فتحوّل عام 1961 إلى مركز ثقافي مشع في قلب مدينة بيروت.في سبعينيات القرن الماضي أعيد تأهيله، وفي 2008 أغلق وخضع لعملية تجديد شاملة استمرت لغاية 2015، فعاود افتتاح أبوابه في أكتوبر الماضي، كقوة دفع مهمة للنشاط الثقافي، وكحافز على مزيد من الإبداع، وإسهاماً في إبقاء لبنان منارة إشعاع ثقافي وحضاري.
توابل
«حياة أجسام خامدة» وصور «عبر الغيوم»... في متحف نقولا سرسق - ببيروت
10-05-2016