حول توجه الحكومة ووثيقتها الاقتصادية
تسوّق معظم وسائل الإعلام المحلية، ولأسباب مصلحية باتت مكشوفة، توجه الحكومة الاقتصادي والمالي وطريقتها في كيفية معالجة عجز الميزانية العامة للدولة، حيث تُركّز رسالتها اليومية المُكثفة على أن المطروح على الساحة السياسية هذه الأيام هو "وثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي"، فتوهم القارئ أنه بالفعل أمام مشروع إصلاح اقتصادي ومالي حقيقي متوافق عليه شعبياً وسياسياً، بحيث يمكن البدء فوراً بتنفيذه، وهذا غير صحيح، وفيه مع الأسف تضليل للرأي العام، فالمطروح من الحكومة والمتداول في وسائل الإعلام كافة هو توجه حكومي خالص يتضمن سياساتها الاقتصادية والمالية في الفترة القادمة، وهي سياسات سبق أن وردت في خططها "التنموية" المشتقة مما تُسميه "الاستراتيجية التنموية" حتى عام 2035. وبالطبع فإن "غرفة التجارة" تؤيد السياسات الاقتصادية للحكومة وتدعمها بقوة، ليس لأنها مشاركة في الحكومة فحسب، بل أيضاً لأن هذه السياسات متناغمة حد التطابق مع رؤيتها ومصالحها، فيكفي أن نعرف أن "العمود الفقري" للسياسات الاقتصادية للحكومة هو قيادة القطاع الخاص لما يسمونه "قاطرة التنمية"، وذلك على الرغم من الطبيعة الريعية للقطاع الخاص الذي لا يدفع ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح، ولا يستطيع الوقوف على قدميه في حال غياب الإنفاق العام والدعم الحكومي، ناهيك عن عدم قدرته، لأسباب بنيوية، على خلق فرص عمل جديدة للعمالة الوطنية!
إذاً نحن أمام توجه حكومي أحادي الجانب، انحيازه الاجتماعي واضح لا تخطئه العين، ولسنا أمام وثيقة إصلاح اقتصادي ومالي حقيقي وعادل لا يمكن تحقيقه من دون إصلاح سياسي-ديمقراطي، بحيث يتمكن جميع المواطنين من المشاركة بصياغة السياسات العامة واتخاذ القرارات من خلال آليات وقنوات دستورية وديمقرطية واضحة، ثم يتحملون في ما بعد ما يترتب عليها من تبعات. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن الأرقام والإحصاءات والبيانات المالية والمعلومات المُستخدمة في إعداد رؤية الحكومة وسياساتها الاقتصادية المطروحة حاليا لا يعرفها سِوى الحكومة، وربما "غرفة التجارة" بحكم قربها من الحكومة، فهي غير منشورة ومتاحة للعامة، أي أنه لا يتوافر فيها عنصر الشفافية المطلوبة في العمل الحكومي، وذلك على الرغم من أنها معلومات تهم مباشرة المواطنين كافة وتتعلق بحياتهم ومستقبلهم، وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، الحُكم على مدى دقتها وحداثتها وصدقيتها. ومما يزيد الطين بلّة أن بعض الإحصاءات التي تنشرها الأجهزة الحكومية عادة تفتقد أحياناً الدقة والموضوعية، وبعضها تكون قديمة، بل يتعارض بعضها مع بعض، خذ، على سبيل المثال لا الحصر، ما أُثير من جدل قبل سنوات قليلة حول التعداد العام للسكان، حيث كان هناك فروق لا يستهان بها بين الإحصاءات المقدمة من أجهزة حكومية مختلفة مثل الإدارة المركزية للإحصاء، والهيئة العامة للمعلومات المدنية، والأمانة العامة للتخطيط، ووزارة الداخلية. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أنه من غير الممكن صياغة سياسات اقتصادية ومالية لها آثار اجتماعية-سياسية من خلال الاعتماد على إحصاءات وبيانات مالية غير دقيقة أو قديمة ومتعارضة، فما البيانات والإحصاءات، والأرقام، والمعلومات التي اعتمدتها الحكومة هذه المرّة وبنت عليها توجهها وسياساتها الاقتصادية والمالية المُقدّمة حالياً، والتي تُطلق عليها وسائل الإعلام "وثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي"؟!