لمحته مقبلاً نحوي، "مؤكد أنني أعرفه". حدّثت نفسي، بينما أتابعه يجرّ خطواته. أحاديث ونقاشات رواد المقهى المتداخلة كانت تشكل لغطاً حلواً حاضراً يملأ المكان. اقترب أكثر فأيقنت أنه يقصدني ومكاني، وحين تلاقت أعيننا، رحبت به وأشرت إليه: "تفضل".

Ad

لاحت ابتسامة باهتة على محيّاه، رمى بنفسه على المقعد المقابل، أسرع النادل، فقلت له: "شاياً لي وللأستاذ أيضاً".

بدا لي متعباً برأس مكشوف افترشه الشيب، ووجه أسمر ممصوص وتجاعيد تظهر معاناةً تبوح بها نظراتٌ ناطقة.

"مؤكد أننا تقابلنا من قبل؟" ابتسمت له، فهزَّ رأسه وبعث بنبرة هادئة: "كثير".

ابتعد بنظراته يتابع أحوال المقهى، ورحت أنا أتأمله بجلسته الهادئة. شيء في هيئته وانكسار نظراته وأنفاسه وملبسه البسيط حرّك ما يشبه حزناً في قلبي.

أنت معتاد على المجيء إلى هنا؟ سألته فأدار وجهه إليَّ وهمس: "نعم، وأماكن أخرى كثيرة".

جاء الشاب النادل بالشاي، وضع كوباً أمامي وأخرى أمام ضيفي.

أسرع شيءٌ من الألفة جاء ليجلس معنا. كل ما في الرجل يشير إلى أنني أعرفه.

"صداقتنا ترجع لبداية السبعينيات"، بادرني وأضاف: "وقتها كُنتَ أنتَ في الصف الثاني المتوسط".

رحت أنظر إليه؛ بحة صوته، وهيئته المُتعَبة، وهندامه البسيط.

"أنا أصادق من يأتي إليَّ"، عاد يحدّثُني: "أشرّع أبواب مملكتي وكنوزي، أحتفي بأصدقائي الزائرين... صحيح أنني أبقى ساكتاً أقود خطواتهم، لكن كل ما في عالمي ناطق".

كلماته حركت صوراً كثيرة في رأسي ومخيلتي.

"في السبعينيات كان حضوري مختلفاً".

"كلنا يكبر ويهرم".

"لا. أنا لا أكبر ولا أهرم"، ردَّ بنبرة باسمة وأضاف: "كلما كبرتُ زدتُ حكمةً، وكلما هرمتُ تجدد شبابي".

لمعة زهوٍ فاضت في عينيه وغشت وجهه.

"في السبعينيات كان إيمان والتفاف الشباب العربي حولي أكثر".

"انفض عنكَ الشباب اليوم؟" سألته، فهدأ لثوان قبل أن يقول:

"تغيّر الوقت. جاءت شبكة الإنترنت، وجاءت محركات البحث، وانتشرت مواقع التواصل الاجتماعي، وكلها تنطق بلغة العولمة، ولها بريقها الساطع... مد العولمة ارتفع فشمل سواحل كثيرة، وللأسف فإن البعض ركب الموجة وابتعد عني لاهياً أو معتقداً أن قرباً من عوالم الشبكة العنكبوتية قد يُغنيه عني".

"ألا يمكن الجمع بينكما أنت ومواقع التواصل الاجتماعي؟".

"ممكن، لكن هناك فرقاً بين لقمة صغيرة وبين وجبة دسمة. مواقع الإنترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي تقدم وصلاً من "الكلمات العابرة" بين البشر، وأنا أقدم حياة لصاحبي".

شيء من البهجة مسَّ روحي وأنا أتابع كلماته.

"لست ضد التطور، وأرفض رفضاً قاطعاً مقاطعة مواقع الإنترنت وشبكاتها، ولا أركض خلف أحد لكني أردد بملء ثقتي: البقاء للفكر وللإبداع الإنساني العميق".

"قلت قبل قليل؛ حضورك في السبعينيات كان مختلفاً في عموم الوطن العربي، فلماذا؟".

"الأمل كان أكبر... شباب ومفكرو ومبدعو الأقطار العربية كانوا يحلمون بغدٍ يأتي محمولاً على الضياء".

انكمشتُ على نفسي في جلستي.

"أنا انعكاس مضيء لروح أي مجتمع... حين يرتفع صوت العنف الأسود، أبتعد أنا. وحين يصبح الحوار مقروناً باستخدام أدوات القتل والدمار والموت، أتوارى أنا مع الغائبين. وحين يرفرف طائر الموت بجناحيه على المدن العربية، فإنني أدفن مع حطام البيوت وأهلها".

"أنت تعيش في السلم والأمن فقط؟".

"لا. أنا أحيا في كل وقت وكل مكان، لكن كيف بإنسان يواجه الموت أن ينشغل بغيره؟ وكيف بإنسان لا يعرف إلى أين تأخذه اللحظة القادمة أن ينظر إلى غيرها؟ وكيف بإنسان يفقد أمه وزوجه وطفله أن يحمل بين يديه سوى نعوشهم الملطخة بدفق دمائهم الطاهرة؟".

آلمني وقع كلماته. رحت أنظر إليه، ما امتدت يده لكوب الشاي. قلت له: "أنتَ الكتاب العربي".

"نعم،" نطق كلمته وهبّ واقفاً وقد اشتعل وجهه بألق واضح، قال: "نحن أصدقاء، أراك لاحقاً". أسرع بخطوه نحو صبي دخل المقهى متأبطاً كتاباً.

* اللقطة بمناسبة؛ اليوم العالمي للكتاب