أمراض الرواية
على هامش توزيع مؤسسة سلطان العويس الثقافية جوائزها السنوية في دبي، جمعتني جلسة مع الأصدقاء؛ الروائي يوسف القعيد، والناقد شريف الجيّار، والشاعرة والناقدة وجدان الصائغ، وقد أثارت الدكتورة وجدان سؤالاً حول حدود كتابة الرواية، وكيف يتمكّن المؤلف من الإمساك بفكرتها الرئيسية خوف توزعها وتشتت أفكارها، خصوصاً حين تجرف الكاتب شهوة الحكي.دار نقاش متشعب، لكن القعيد، ذكر لوجدان أنه كتب روايته الأشهر؛ الحرب في بر مصر، بناء على حكاية حقيقية صغيرة أسرّت بها والدته إليه. وأن الحكاية عاشت معه لسنوات قبل أن يتخلص من هاجسها بتسطيرها في رواية. إن إشارة القعيد الذكية لتقول بتلخيص كبير لكيفية كتابة الرواية؛ فالرواية أي رواية هي بالأساس فكرة، ربما أمكن كتابتها بجملة أو سطر أو فقرة أو ورقة واحدة. وما يقوم به الروائي هو محاولة تمثّل وكتابة هذه الفكرة، بتضافر العناصر الفنية لجنس الرواية، بعد النظر إليها من مختلف الجهات، وتمتينّها بشخصيات وأحداث محسوبة، ولا أقول كثيرة.
أقطار الوطن العربي تشهد، منذ سنوات، طوفانا من كتابات الرواية، وأنا شخصياً لست ضد هذه الظاهرة، لكني مع أن يتسلح الكاتب بالأدوات الفنية اللازمة للكتابة قبل ركوب قاربها والإبحار في بحرها. المعاهد والجامعات الغربية والأميركية، تنظر للإبداع الروائي بوصفه علماً، صحيح أنه يقوم على شيء من الموهبة، ويركن إلى تراكم قراءات متعددة تشكل البئر التي تستقي الكاتب، لكنه يتطلب بالضرورة الإلمام العلمي بعناصر الكتابة، وهذا ما تقوم عليه فصول "الكتابة الإبداعية" المتخصصة. ما أثارته الدكتورة وجدان الصائغ، وهي الناقدة المتمكنة والعالمة بعوالم الكتابة الإبداعية، هو السؤال الأصعب؛ كيف يعرف الكاتب حدوده ويقف حيث يجب؟ وهنا أذكر أنه في عام 1988 جمعتني جلسة في بيت الصديق الروائي إسماعيل فهد إسماعيل في الكويت، بحضور الروائيين؛ جبرا إبراهيم جبرا، وحنا مينا، وجمال الغيطاني، وفؤاد التكرلي، والطيب صالح، وغالب هلسا وآخرين. وقد سأل إسماعيل جبرا بوصفه أكبر الحضور سناً عن أجمل رواية عربية قرأها، فردَّ بعد صمت: "أجمل رواية عربية قرأتها هي رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي"، وأشار ناحية فؤاد. وحين سألته عن السبب في اختياره وحكمه، أجابني بقوله: "رواية فؤاد لا تستطيع أن تضيف لها كلمة، ولا تحذف منها فاصلة".إن إجابة جبرا إبراهيم جبرا، وهو الكاتب الموسوعي والمترجم الروائي والمسرحي، تقول فكرة غاية في الأهمية مفادها؛ إن الرواية الناجحة إبداعياً هي الرواية الخالية من أي زيادة أو ترهل، فليس العبرة بضخامة الرواية، ولا بتشعب موضوعاتها، لكن الأهم هو قدرتها على أن تقدم فكرة محكمة السبك قد تكون في غاية البساطة، لكنها تأتي محمولة على موهبة الكاتب، وعلى فنية تحقيقها لعناصر الكتابة الروائية، مثلما تأتي بلغتها الخاصة، وبقدرتها على المحافظة على رتم مشوق للقراءة.نعم، تعاني الرواية العربية خاصة في السنوات الأخيرة مما أسماه الناقد المغربي د. سعيد يقطين؛ "البدانة الروائية"، وهذه البدانة ربما وفدت إليها من اللوحة التشكيلية العربية، فالكثير من الفنانين التشكيلين العرب هجروا اللوحة الصغيرة وما عادوا يرسمون لوحة بمقاس أصغر من 100×100 سم، وقد يرسمون لوحات جدارية تتجاوز الثلاثة أمتار. وإذا كانت سعر اللوحة يقاس بالإنش المربع، فإن سعر الرواية لا يقاس بعدد صفحاتها ولا ببدانتها، فالعالم يعيش عصر نجمات السينما وعارضات الأزياء الأنحف، وهو يعيش عصر "تويتر"، الذي لا يحتمل أكثر من 140 حرفاً، لذا على الكاتب الروائي أن يقلّب فكرته على شتى وجوهها، وأن يحسب كلماته، وألا يتجاوز بشطحاته ما يجور على روايته، وإلا سقط في بحر البدانة والسمنة، وكلتاهما مرض من أمراض العصر الأكثر انتشاراً.