في رواية "رحلة الغرناطي" لربيع جابر يرى القارئ نفسه إزاء ثلاثة فضاءات.
الأول، ما تقدمه الكتابة من قماشة المكان والزمان، وهو هنا تاريخ الأندلس في العصور الوسطى، بكل ما فيه من زخم الصراعات وظلال الهويات المرتبكة، ونوستالجيا الحضارة الإسلامية في بعدها الثقافي، وفي صعودها واضمحلالها.الثاني، مفهوم الرحلة والترحّل في المكان والزمان أيضاً، لكونه مرتبطاً بالبحث والاكتشاف والرغبة الملحة بالمعرفة والتقصي. وما يتطلب ذلك من جهد ومشقة ومغامرة وانطلاق نحو المجهول، وما يخالطه من شكوك واحتمالات مفتوحة وغايات مراوغة.الثالث، البعد الروحي في هكذا رحلة ظاهرها البحث عن أخ ضائع، وفي باطنها يكمن السؤال الوجودي الملحّ عن غاية الحياة، وتظهر هذه الغاية في السعي الإنساني، وفي لذة التجريب والتطلّع، وفي التعلّق القلبي بشوقٍ لا يُدرَك. في "رحلة الغرناطي" يلعب ربيع جابر على أوتار الفضاءات الثلاثة باتساق وهارموني ملحوظين، فلغته ليست لغة مؤرخة فتتحرى الدقة والتوثيق، وليست لغة إخبارية لتتابع الإحداثيات وتصاعداتها، ولكنها أشبه بلغة شعرية غائمة تأخذك إلى بُعد ثالث لتحكي عن مواجد روح معذّبة باشتياقاتٍ مبهمة، وعن لهاث لا ينقضي وبحثٍ لا ينتهي: "على الفرس العالية، معلقاً في الفضاء، على الرحال الملبس بالديباج، ونسائم عليلة تلامس وجهه، أحس نفسه يغادر جسمه... ظلمات تغادر جسمه، أو أنه هو يغادر الظلمات، لم يعد يعرف من يكون، نسي كل شيء. لا يدري إلى أين يذهب. صوت النهر يكفي، وهذا الهواء. الفضاء المفتوح وروائح الأرض والنبت والطير والحيوان... لكن هو، محمد، هل يعرف طريقه؟ هل يعرف إلى أين يمضي؟ هل يعرف ماذا يترك خلفه؟ هل يعرف ماذا سيجد في نهايةالطريق؟ لم يفكر في ذلك. لم يفكر في شيء. كان على الطريق. يسبح في فضاء الخريف الأصفر تحت سماء زرقاء تعبرها غيوم ناصعة البياض". تتأسس رواية "رحلة الغرناطي" على خلفية تاريخ العرب في الأندلس. والموضوع سبق أن عولج روائياً في أعمال أخرى، لعل أهمها (ليون الإفريقي) لأمين معلوف، و(ثلاثية غرناطة) لرضوى عاشور، اللذين أبدعا في الذهاب عميقاً في تفاصيل المحنة وفي تجسيد شخوصها إبان الصراعات ومحن الاقتلاع والتهجير، لذلك لم يلتفت ربيع جابر إلى مثل هذه التفاصيل الكبرى إلا لماماً، وحين يقتضي السياق، واعتنى بدلاً من ذلك بمحنة أسرة متفردة أضاعت ابنها البكر في ليلة مظلمة. وكأني بهذه الأسرة الصغيرة لست سوى شذرة في فسيفساء الضياع الأكبر، وأما رحلة البحث المضنية التي تكبّدها محمد بن عبدالرحمن المازني القيسي الغرناطي فليست سوى بحثٍ عن التاريخ الضائع، وعن حضارة انقضت وتقوّضت، ولم تعد غير وهم يسكن المخيلة ويستدعي الحزن والندم. وهكذا تُحاك التفاصيل حول رحلة البحث عن الوهم، حين ينطلق محمد للبحث عن أخيه الربيع الذي فقده في غابة حين كانا طفلين يرعيان الغنم، فينطلق من مدينته غرناطة قبيل سقوطها نحو قرطبة فبلنسية فجنوى فسبتة في المغرب وتطوان وتونس والإسكندرية، ثم يغادر إفريقيا نحو بيت المقدس فاللاذقية فإنطاكية... دروب من المشقة والضياع والحلّ والترحال... إلى أن ينتهي إلى طريق مسدود في قلعة ذات سوق عتيق عميق يلاقي فيه وجه أخيه المتوهَّم، ليجده لايزال طفلاً في الثالثة عشرة من عمره! وحين يدور الحوار بينهما يجده أكثر حكمة وقبولاً لواقع لا يمكن تغييره: "قال الربيع: لماذا جئتَ؟ / قال محمد: أبحث عنك منذ سنين / قال الربيع: ما ينفع هذا. / قال محمد: كيف متَّ؟ قال الربيع: لا تفكر في هذا... اذهب إلى أولادك. / جلس محمد الغرناطي على الأرض. كان يبكي".
توابل
رحلة الغرناطي
03-05-2016