لا أستطيع قراءة أي نص أو "بوست" للكاتبة نهى حقي دون أن تتجسد بكاملها داخل إحساسي، فهي تملك هذا الحضور الدافئ المليء بالحس الإنساني العميق الذي يشبه تماماً شخصية والدها المبدع الكبير يحيى حقي في رقة إحساسه وأخلاقه الدمثة المحبة المتواضعة. وفوجئت عند قراءة كتاب القصص القصيرة الذي أهدته إليّ أنها ورثت طريقة تفكير ومنطق والدها أيضاً، لذا غبطتها على هذا الإرث العظيم.

Ad

"فلة مشمش لولو" أول مجموعة قصصية كتبها الكبير يحيى حقي، وبالرغم من أنها كُتبت في عام 1926 فإنها تبدو طازجة وحداثية كأنها كُتبت اليوم،  مما يكشف للقارئ أن النص الجيد لا يُكتب لزمن معين وينتهي عنده، بل هو صالح لكل زمان ومكان، لذا نجد النصوص العظيمة يُكتب لها الخلود، ومنها هذه القصص التي يكشف فيها يحيى حقي عن حياة الناس وعاداتهم وطبيعتهم وذاكرة أمكنتهم من خلال حيواناتهم الأليفة، ومنهم نتعرف على مربيهم الذين يصبغون طباع حيواناتهم بطابعهم ويتماثلون معها، فتصبح تشبههم وهم يشبهونها، قصص في غاية الظرافة وخفة الدم التي تتميز وتتجلى في لغة أسلوبه الرشيق الغائص في فهم الطبيعة الإنسانية للشخصية المصرية حتى عظمها، ويطعمها ببعض الكلمات العامية التي لا يمكن للغة العربية مهما أُوتيت من بلاغة أن تأتي بمثلها، عامية منتقاة بعين صياد لا تخطئ هدفها، عامية مكتنزة المعنى لا يضاهيها أي معنى آخر حتى لو كان جملة كاملة من اللغة العربية، ومثال على ذلك هذه الفقرة من قصة "الديك الرومي" يصفه: "وكأنه ينقش بمنقاره هذه الكلمات في الحجر ثم ينفش ريشه ويهبط جناحه حتى يمس الأرض، ويتكور بطنه وصدره، ويصبح مثالاً للنفخة الكدابة في الخيلاء والعظمة، كأنما أريقت على رأسه كنكة تغلي بشمع أحمر يصبها محضر في يده حكم بالإغلاق أو المصادرة، فلما جاوز الشمع منقاره انعقد ولم يسقط إلى الأرض، هذه الدلدولة تخايل عينه وتجنن اللي ما يتجننش، فهو معذور في زربنته وبرطمته". حاولت أن أجد مفردة في اللغة العربية تماثل زربنته أو الدلدولة فلم أجد لأيٍّ منهما مقابلاً بقوة معناها وخفة دمها وتمثلها الكامل لإصابة وقنص المعنى المختزل في مفردة واحدة، ومثال على اختياره للمفردات العامية التي تعجز اللغة العربية على الإتيان بما يماثلها في كلمة واحدة، مثل كلمة نغة ومبشبشة، اتبرجل، عصلج، محندق، أدرك قيمة كثافة المعنى الذي اختصر الزمن بعادات وتراث الناس فيها،

طريقة وصفه لهذه القصص رائعة حية بلحم وشحم ناسها تجعل القارئ يتمثلهم ويحسهم، والمشهد مرئي بالصوت والصورة وصافٍ بشكل مبهر، يُدرك الشخصية من داخلها وخارجها تماماً، قدرة هائلة على الإمساك بالتفاصيل الصغيرة النابضة بكل شخصية من شكل وطبع وروح، ومنشئها وبيئتها إلى لغتها وتعابيرها ومنطقها وطريقة تفكيرها وتصرفاتها وردود أفعالها بما فيها الحيوانات في هذه القصص، بدرجة جعلتني أستغرب قدرته الفذة في تصويرها والإحساس بها إلى درجة تقمصها بالفعل، هو لا يكتب شخصياته بل يكون هو ذاتها.

يحيي حقي هو الكتابة في أوج إنسانيتها وتجسدها الحي في النصوص، فتراها حية متحركة بآدميتها وفكرها ومنطقها، واقعية قريبة من القلب متصلة بروح الإنسان متعاطفة معه ومع إحساسه به ولم تتعالَ عليه، وهو ما رغب فيه من هدف كتابته الوصول إلى إمتاع وإسعاد الناس.

تحتوي هذه المجموعة القصصية على 6 قصص كلها تدور حول حكايات الناس في البيوت تميزت بخفة دم الروح الشعبية المصرية، ففي القصة الأولى التي عُنون الكتاب باسمها "فلة مشمش لولو" يكتب عن قطة تربيها سرنديل هانم المرأة التي تعاني الشيخوخة والوحدة ترافقها قطتها التي باتت تشبهها بالطباع، لكن يحيى حقي كتب الإحساس بالقطة مختلفاً عمن كتبوا بلسان الحيوان، هنا الكتابة تتميز بروح خفيفة الظل ساخرة تشبه البيئة الآتية منها ولا تعكس صورة عامة عن الحيوانات، القصص الأخرى تشبه واقعها ومكانها وناسها فمثلاً قصة احتجاج تمثل نموذج وعينة عمن رصدتهم العين الدقيقة العميقة للكاتب:" وأصبح الأسطى حسن بعد قليل يعرف أسماء أقاربهم وصناعاتهم وأسماء المستأجرين ومشاكلهم، بل يعرف كل من يتردد على المنزل، كالدلالة وابنتها، والبلانة والقابلة ونظلة الهابلة وسارة الشامية بائعة الصابون والشيخ أحمد المجذوب".