الولايات المتحدة ستندم على تخليها عن الشرق الأوسط
تُبرز الحملة الرئاسية الغريبة، التي نشهدها هذه السنة، الهوة بين نخبة السياسة الخارجية والناخبين، فقد بدّلت هذه الحملة مؤسسات السياسة الخارجية في كلا الحزبين، وقدّمت بطريقة مثيرة للاهتمام إجماعاً حزبياً جديداً، إجماعاً يرفض التدخل الأميركي في العالم العربي.على سبيل المثال، رفض المرشح الجمهوري الأبرز دونالد ترامب حرب العراق معتبراً إياها جريمة، وندد بتحالفات الولايات المتحدة التقليدية، وأغدق المديح على حكام مستبدين أمثال معمر القذافي، كذلك شغلت حرب العراق الحزب الديمقراطي مع وصف بيرني ساندرز دعم هيلاري كلينتون هذه الحرب باختبار مهارات أخفقت فيه، ويسعى ساندرز وجيشه من المؤيدين الشبان اليوم لترك بصمتهم الداعمة لعدم التدخل على الحزب الديمقراطي، داعين إلى التعاون مع روسيا وإيران على حساب حلفاء الولايات المتحدة.
حتى في حقبة ما بعد الحرب الباردة، حين لم تعُد الولايات المتحدة مضطرة إلى التصدي للإمبراطورية السوفياتية العدائية، ظل الشرق الأوسط منطقة يتفق عليها الجميع، فسعى كلا الحزبين إلى حل الصراع الإسرائيلي-الفسلطيني، واحتواء إيران والعراق، والتعاطي مع خطر الإرهاب الإسلامي الناشئ. صحيح أننا شهدنا بعض الخلافات بشأن التكتيكات المعتمدة، إلا أن الحزبين أجمعا على الأهداف العامة، وفي عام 2003 دعما كلاهما غزو العراق والحاجة إلى تطهيره من أسلحة الدمار الشامل المزعومة، ولا شك أن كارثة الحادي عشر من سبتمبر ساهمت مساهمة كبيرة في حمل الحزبين على تأييد غزو العراق، إلا أن الشرق الأوسط لطالما شكّل محور إجماع مماثلاً.لكن حرب العراق وتداعياتها السلبية قوّضت ذلك الإجماع في السياسة الأميركية، فشكّلت رئاسة باراك أوباما رد فعل تجاه محاولة الولايات المتحدة المكلفة تطبيق نظام حكم ديمقراطي في العراق، لكن أوباما بالغ، على ما يبدو، في تطبيق الدروس المستمدة من هذه الحرب: فاختار انسحاباً سريعاً ومتهوراً من العراق، ورسم خطوطاً حمراء في سورية وتراجع عنها، وشن حرب طائرات من دون طيار على الإرهاب من دون أن يأخذ أسباب التطرف الكامنة في الاعتبار، فيمثل الإرهاب في المقام الأول انعكاساً عنيفاً لإخفاق المؤسسات وفشل حياة الأشخاص.تعرضت إدارة أوباما لرقابة متزايدة من نخبة السياسة الخارجية: الجمهوريون منها بشكل علني والديمقراطيون بشكل سري، فعزز هذا كره أوباما لما دعاه "كتاب اللعب في واشنطن". لكن سنوات أوباما المثيرة للجدل تخفي واقعاً مهماً: حظي تردد الرئيس بمقدار من الدعم الشعبي، فلم تكشف حملة الانتخابات الأولية في كلا الحزبين عن شعب لا يثق بالنخب ومؤسساتها فحسب، بل يشكك أيضاً في مفهوم أن الولايات المتحدة تحمل أعباء الشرق الأوسط.علاوة على ذلك، يرفض كلا الحزبين الإقرار بأنهما يعيدان النظر في أسلوبهما التقليدي، ولا شك أن مرشحَيهما، اللذين سيفوزان في الانتخابات الأولية، سيتحدثان عن القضاء على تنظيم داعش، ودعم إسرائيل، وتعزيز نظام التحالف المتقلقل في الشرق الأوسط، لكنهما سيضمّنان أيضاً تصريحاتهما القوية تعهداً بعدم نشر جنود في المنطقة. وسيتجاهلان واقع أن الحرب الأهلية السورية لن تنتهي وأن "داعش" لن يُهزم بحق من دون إنزال الولايات المتحدة عدداً كبيراً من الجنود على الأرض، فلا تستطيع الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية وحدها الحد من الكارثة الإنسانية في سورية أو استعادة أجزاء من العراق من قبضة الدولة الإسلامية.إذاً، تعود الكارثة الحقيقية في الشرق الأوسط إلى أن لامبالاة الولايات المتحدة جاءت في وقت تمر فيه المنطقة بإحدى أعنف مراحلها الانتقالية.لن يتخلى أي رئيس أميركي عن الشرق الأوسط، إلا أن الزمن الذي كانت فيه واشنطن تحد من صراعاته قد ولّى، فقد يتبّدل هذا الوضع مجدداً، ولا شك أن متلازمة العراق ستُنسى ذات يوم، على غرار متلازمة فيتنام الموهنة من قبلها، لكن هذه أول مرة في تاريخ ما بعد الاستقلال يكون فيها الشرق الأوسط وحده بدون أي مساعِد، ومن المؤكد أن مخاطر هذه العزلة ستتجلى قريباً.* راي تاكيه | Ray Takeyh