وعل الشعر فريد أبو سعدة

نشر في 02-05-2016
آخر تحديث 02-05-2016 | 00:00
 فوزية شويش السالم الكتابة عن الشعر ليست بمثل الكتابة عن الرواية، الرواية أكثر سهولة، فالنص الروائي يتفكك عند القراءة ويتحول إلى خيوط بنسيج مغزول من السهولة معرفة طريقة نسجه، أما الشعر فهو وهج يلسع مثل جمرة، ثم يختفي لا يمكن فهمه ولا مطاردة بارق ضوئه، ورغم أني أمارس كتابة الاثنين، لكني أجد صعوبة في تفسير الشعر وكيفية القبض على مالا يُقبض عليه، المنزلق من التنظير والتأطير، المتملص من قبضة وأسر التفسير، ولا أومن بالكتابة التي تفسر الشعر وتفصفص معناه، فهو مثل الرسم هاربان من سجن المعنى، فهل بالإمكان القبض على نسمة الهواء أو سطعة النور؟

هذا هو الشعر، معناه أكبر وأوسع وأشمل من كل التفاسير، وهو الأمر الذي حيرني وأنا أقرأ الأعمال الشعرية الكاملة في جزئها الثاني للشاعر فريد أبو سعدة، رائد من رواد الحركة الشعرية في سبعينيات القرن الماضي، وتجربته كبيرة وغزيرة ومتنوعة، متفردة ومختلفة عن غيرها من تجارب جيل السبعينيات التي كانت قفزة هائلة للأمام، وشعره بالذات تصعب الإحاطة به؛ لأنه لا يدور حول قضية أو معنى أو هدف واحد يشغل فكر الشاعر وروحه، التنوع الشعري عنده بحره واسع، ممتزج بالثقافات الإنسانية المتنوعة، فتجد فيه روح الحلاّج ومنابع الصوفية، ممتزج بمياه نشيد الانشاد وآلهة الأساطير السومرية وملحمة جلجامش وبدء خليقة هوميروس، وينابيع من الثقافات المختلفة اختلطت في نهره العميق حتى ولد أسطورته المتميزة بموسيقاها ولغتها الغريبة المتفردة بطزاجة اليومي المعيش، منثورة على الماضي حتى أتت به كأنه يحدث الآن، على الرغم من ماضيه ومن دلالاته المتعددة، حداثة استعماله للغته الشعرية تجعل ما كان أسطورياً يصعب تحقق واقعه كأنه يحدث الآن، مثل هذه الأبيات من ذاكرة الوعل: 1 - «حبكت حول ردفيها القميص وهي تعبر الشارع/ كانت خائفة من احتكاك العتمة بها».

2 - «كان من اليسير عليها أن تقرأ تعويذة فتدب الحياة في الصورة والنقش/ صنعت تمثالاً لغزال ثم قرأت عليه فقفز في الفراغ ولم يُر بعد».

3 - «أتعقب كل امرأة وشباكي الكلمات/ فإن آنستُ امرأة فيها شيء منك أضأت».

4 - «كيف أخربك وأنت خراب كلك/ قلت بتخريب هذا الخراب».

المزج التراثي الأسطوري والحياة العامة والخاصة وذات الشاعر والماضي والحاضر كله يمتزج بخلاط النص الشعري، وأكثر شيء لافت فيه هو اللغة الراقية الرشيقة الطازجة كأنها خارجة من فرنها للتو، مطعمة بكثافة المشاعر الحسية الطاغية، وبأسماء الأماكن المعروفة الساكنة بحميميتها، وهو ينعكس أيضاً على المسميات والمفردات المصرية المحلية التي تطلق على الأثاث والملابس والعادات، كلها وردت حضورها الشفيف على القصائد.

شعر فريد أبو سعدة مليء بالعاطفة المتقدة، سواء كانت حسية أو تأملية، فهو قادر على بث الإحساس حتى  بالحجر، 1 - «حجر يومئ إلي: ساعدني أيها الرجل الجميل/ ارفع بيديك قليلا/ هذا الهواء/ أريد أن أستدير/ إلى جهة». 2 - «حجر/ تغويه هاوية/ تفتح وركيها وتومي». 3 - «أفكر/ هل البيت قفص من رماد/ هل الحب وقت/ بين الورد والرماد/ لابد أنني أكلم نفسي/ أومأتُ للمزهرية/ فجفلت». 4 - «لابد أنني نقش يختفي/ في فروة الضوء». 5 - «لم تكن جادة/ في إزاحتي/ وكنتُ مأخوذاً/ الهواء الحريف/ يصفق بجناحيه بيننا/ ويجـــرب لغــــات جديــــدة». 6 - «وحيـــدة/ في الطابق السابع/ الكراسي لا تكف عن الثرثرة/ والمرايا تعاني من النمش المزمن».

مع فريد أبو سعدة تختلف وتتنافر المواضيع، وتجدها لا تنتمي ولا تنضوي مع سابقتها، ولكنها تفاجئك أنها انبعثت من ذات الرحم بتوأمين، لكنهما بشكل مختلف وبروح واحدة، وهذا تجده واضحا بديوان «ذاكرة الوعل» الذي امتزجت فيه الأساطير بالحميم والخاص جدا، امتزجاً يثير الدهشة من قدرته على هذا التمازج، فمثلا هذا الشطر أسطوري المناخ: «قم يا سيد القمح والكروم/ أيها النائمُ/ والنيلُ يجري بين ساقيه/ قم أيها العاشق بحقِ ياهٍ يوه».

ثم يدخل في النص مناخ لا علاقة له بالأسطورة إلا في الجوهر، مثال على ذلك: «اهدئي قليلا/ لا تتجولي هكذا بقلبي/ فالأوراق تصفرُ بين يدي وتشتعلُ فجأة». ومثال آخر: «قالت: تبارك المشتري، والساكن بفلكه، الآخذ بناصية خُدام يومه: الحاءُ، الآنك،/ الباردُ السعدُ المحضُ/ وخرجت فأفسح لها شهدائيل وجلست بجواره». ويليه: «بعد نظرة على خرائب بولاق/ حيث تطفو فيروز مع الطائرات الورقية/ أستطيع أن أكون غيري».

back to top