يتنطع المتحدثون والكتّاب بالتقدم الحاصل في سنغافورة، ويوصي الجهابذة بنقل أو اعتماد تجربة سنغافورة كنموذج للنجاح الباهر لذلك البلد الصغير الذي انتقل من حالة فقر وفوضى إلى بلد نموذج يحقق نتائج باهرة على كل الصعد في زمن قصير.

Ad

لن نستطيع أن نصل إلى جزء من ألف مما حققته سنغافورة بمجرد نقل نظامها الإلكتروني أو تنظيمها الإداري، فالمسألة أكبر وأعقد وأكثر جدية من هذا، فالبداية أن يكون هناك قيادة وإرادة وإخلاص وعلم في القمة وشعب ناضج فاعل ومستعد للتضحية اليوم من أجل مستقبل أفضل، فنحن للأسف لا نملك الاثنين.

الشعب السنغافوري يعمل بلا كلل، ويطبق العلوم بحرفنة ومهنية راقية بقيادة واعية تعرف ما تريد وإلى أين تذهب بالبلاد، وأداؤها يراه الشعب، ويرفض أي اعوجاج إن رآه من خلال قنوات أمينة تحرس مصالح البلاد، ويقبل الشعب كل القوانين التي يسنها ممثلوه، وهي صعبة لكنها تصب في مصلحة البلاد، وليس هناك مجال للدلع ولا فرص مفتوحة للفساد، ففيها مقاولون وتجار ومستثمرون يربحون لكنهم لا يبالغون في الربح ولا يقدمون خدمات رديئة، ويدفعون الضرائب الكافية من أرباحهم، والشعب يدفع ما عليه من ضرائب ورسوم لكنه يرى في المقابل عائد هذه الضرائب في الخدمات المميزة التي توفرها الدولة له، ولا يرى ولا يقبل أن يستفيد أحد بدون وجه حق.

في سنغافورة لا تجد أمام كل بيت مجموعة من السيارات كما يحدث عندنا حتى غصت شوارعنا، فرسوم امتلاك سيارة ثانية تكون أضعاف رسوم السيارة الأولى، وهذه الرسوم قد تعادل قيمة السيارة، ولو أراد شخص شراء سيارة ثالثة فالرسوم تتضاعف مرتين، وهكذا تم الحد من عدد السيارات هناك، في المقابل تم تسيير خدمات نقل متطورة ومريحة يستخدمها غالبية الناس هناك، وهذا مثال فقط على جدية الحلول التي تبنتها سنغافورة لكي توقف الهدر وتركز على عوامل الإنتاج.

سنغافورة شجعت الاستثمار الأجنبي في بداية خطتها للتنمية لكنها اشترطت على المستثمر الأجنبي تدريب وتعيين مواطنيها ونقل المعارف والتقنيات إلى البلاد وأهلها، واستطاعت بهذه السياسة تمكين مواطنيها من استخدام المعدات والأنظمة الحديثة ثم البدء بتصنيعها، ونجاح سنغافورة في خلق قاعدة صناعية في مجالات الكمبيوتر مثال يحتذى.

شعب سنغافورة يفوق خمسة ملايين نسمة متعدد الأصول، ففيها من أصول صينية وهندية وآسيوية، وأغلبية من أصول صينية، وفيهم المسلمون والبوذيون والمسيحيون بكل أطيافهم، لكن هذا لم يمكن وصول ممثلين عن كل هؤلاء في برلمان سنغافورة، وأن تتولى رئاسة البرلمان سيدة اسمها حليمة يعقوب، فالعدل وعدم التمييز بين الناس مطبق تطبيقا جادا خلق دولة مستقرة وشعبا موحدا.

برامج التعليم والتدريب يعاد تطويرها باستمرار باتجاه هدف واضح، وهو خلق مواطن منتج وناجح يخدم خطة التطوير بعيدا عن أي تدخلات مذهبية أو عنصرية، أو أي اتجاه يغيب عقول الناس عن الهدف الأعلى في خدمة مستقبل البلاد، وبذلك تمكنت سنغافورة من عبور النهضة التقنية باقتدار، وأصبح معظم المعاملات الحكومية وغيرها يتم إلكترونيا وبسرعة ودقة فائقتين دون اللف والدوران في الدوائر الحكومية.

أصبحت سنغافورة مركزا تجاريا عالميا وميناء رئيسا لكل أعمال التجارة والنفط في زمن قصير، في حين نحن نطنطن ونذيع الأناشيد عن نيتنا التحول إلى مركز تجاري، والخطط تتم وتنفذ ولا تنتظر تحديد من يأخذ هذه المناقصة أو تلك، فيبحثون عن الأجود والأفضل ونحن ننتظر الصاحب المستفيد ليخدعنا مرات ومرات ويترك لنا إنتاجا منتهي الصلاحية أو عديم الفائدة أو يعطب بعد شهر من دفع ثمنه.

تجربة سنغافورة فريدة وتستحق منا الدراسة، لكن تطبيق تجربتها يتطلب تغييرا جذريا في نظرتنا وتفكيرنا وإدارتنا على المستويين الرسمي والشعبي.