«وثائق بنما» (2)
تلقيت رسالة من صديق عزيز فيها تعليق على المقال السابق ومعلومات إضافية حول الملاذات الضريبية، وقد استأذنته في نشرها كي "لا تضيع أهمية ما ورد في "أوراق بنما" بالتعميم الجمعي للتهم" كما ذكر، والآن سأترك باقي الزاوية لرسالة صديقنا والحكم للقارئ:"التعامل مع الملاذات الضريبية تعامل قانوني تماماً، حكمه إيداع مليون شخص طبيعي أو اعتباري أموالاً في مصرف، وبعد نشر كل أسماء المودعين في ذلك المصرف، خلافاً لسرية المعلومة، يكتشف أن هناك 10 مودعين مصادر أموالهم، أي ودائعهم، قذرة، والتعميم هناك سوف يسهم في صرف النظر عن جرائمهم.
ثاني الحقائق، هي أن ما نشر والبالغ عدده 11.5 مليون ملف، لا يمثل سوى نسبة صغيرة من التعاملات مع الملاذات الضريبية، والملفات قد تكون بمئات الملايين، فما نشر ليس سوى ما هو مدون لدى مكتب قانوني واحد، وفي ملاذ ضريبي واحد هو "بنما"، بينما هناك مثلاً "جزر الكيمان" و"جزر العذراء" و"جيرزي"... إلخ، وثلث هذه الملاذات تحت سلطة الحكومة البريطانية.ثالث الحقائق هي أن الشبهة ضمن "أوراق بنما" طالت 140 ملفاً لسياسيين ومشاهير، وخطورتها الأخف هي التهرب من الضرائب في الدول المتقدمة، أما خطورتها الأعنف فهي مصادر هذه الأموال إن كان أصحابها من دول نامية أو دكتاتورية. والملاذات الضريبية هي توافق مصلحي وقانوني بين ثلاثة أطراف:1- البلد المستقبل للاستثمار، والدول المتقدمة في تنافس فيما بينها لاجتذاب الاستثمار الأجنبـي المباشـر وغير المباشر فتمنحـه حسـما ضريبـيا قـد يصـل إلـى 40% على الأرباح الرأسمالية، حتى التوزيعات، إن قام بالاستثمار فيها من خلال شركة مؤسسة في ملاذ ضريبي متفق عليه. 2- المستثمر الأجنبي يرغب حتماً في تعظيم العائد على مشروعه، ومن ثم هو يبحث عن مشروعات أو استثمارات في أعلى الدول منحاً للحوافز الضريبية، ويُضمن الحسومات الضريبية في دراسة جدوى الاستثمار.3- الملاذ الضريبي، وهو في العادة منطقة أو جزيرة صغيرة، تبحث عن تنشيط اقتصادها وتعظيم دخلها من نشاط خدماتي يساهم في خلق فرص عمل متقدمة، وعليه تقوم بعقد اتفاقات مع الدول المتقدمة والمستثمر الأجنبي لتقديم هذه الخدمة مقابل رسوم. وآلية التعامل النظيف مع تلك الملاذات الضريبية يوضحها المثال المتكرر كالتالي:• تؤول ملكية عقار تجاري في إحدى الولايات الأميركية لأحد المصارف بحكم تسوية مديونية، وعلى المصرف قيد زمني للتخلص في الأصل، وليس لديه قدرة أو خبرة في صيانة الأصل أو إدارته، وتسوء أوضاعه، وذلك يخلق فرصة لشرائه بشروط المستثمر. يتفق مجموعة من العملاء على شرائه ويكلفون أحداً بالتفاوض للشراء نيابة عنهم، ويصلون إلى قرار الشراء، ويتولى مكتب محاماة أميركي إضافة إلى مستشار ضريبة مرخص، بنصحهم بأفضل الطرق القانونية لدفع أدنى مستوى من الضريبة. ويتولى المكتب القانوني إنشاء شركة بواسطة وكيله في أحد الملاذات الضريبية تملك 99% من المشروع، ثم إنشاء شركة إدارة ثانية باسم مديري الشركة- الاستشاريين- في إحدى الولايات الأميركية- نيفادا مثلاً- وتملك 1% من المشروع وتتحمل المسؤولية الإدارية والقانونية خلال حياة المشروع، وتتعامل مع السلطات الضريبية وأجهزة الرقابة الأخرى في الولايات المتحدة. ثم يتم تحويل الأموال من العملاء بواسطة النظام المصرفي المحلي إلى النظام المصرفي الأميركي تحت رقابة كل أجهزة الرقابة لتغطية نصف رأسمال المشروع، بينما يتم اقتراض النصف الآخر أو أكثر من النظام المصرفي الأميركي. وخلال حياة المشروع تُورد كل البيانات المالية المدققة إلى كل الأجهزة الرقابية الأميركية شاملاً مصلحة الضرائب، وعند بيع الاستثمار، لا تحول الأموال إلا بعد سداد كل الالتزامات شاملاً الاقتطاعات الضريبية.أين تكمن أهمية "أوراق بنما"؟تكمن أهمية "أوراق بنما" في إيضاح أن السرية قد تؤدي إلى انحراف في استخدامها، وأخطر ما كشفته "أوراق بنما" هو الـ140 ملفاً لسياسيين ونافذين، التهمة الأقل خطورة فيها هي التهرب من الضريبة لسياسيي الدول المتقدمة والتي أدت إلى استقالة رئيس وزراء "آيسلندا"، واستطاع "كاميرون" تبرئة نفسه بنشر إقراراته الضريبية، فالتهمة هي من التهرب لا بسبب التعامل. على أن الأكثر خطورة هي تلك الأموال المغموسة بالدم والمسروقة من قوت شعوب مقهورة، والسرية هنا تم استغلالها لغسل هذه الأموال، فهي جزء من صناديق ومحافظ ضخمة، وصاحبها رئيس وزراء أو رئيس جمهورية أو أي نافذ فاسد، وهذا الصنف الفاسد حتى لا يهتم إن خسرت استثماراته، وإنما مبتغاه هو أن يستلمها نظيفة في نهاية المطاف، ومن خلال أي نظام مصرفي. ونعتقد أن الحل يكمن في إلغاء مبدأ السرية في كل الملاذات الضريبية، وجعل كل تعاملاتها علنية، فالسرية خطورتها أكبر، لأنها دائماً تغري صنف المتهربين من الضرائب، والأخطر، صنف أصحاب الأموال القذرة للإفادة منها في تبييض أموالهم، ويفترض بمن يتعامل بشكل قانوني ونظيف أن يخدمه نزع السرية عن تلك الملاذات".