كثيرون من يرون مجتمعاتهم غير منصفة بهذه الدرجة أو تلك، لا سيما الشرائح الأشد وعيا ونزاهة. ماذا يتمنى المرء الطامح للتقدم والحداثة أكثر من أن ينهض مجتمعه على قيم الحرية والعدل؟ ولكن النظرة الأولى الواقعية للحياة والأشياء وأغلب ما يرتبط بها تفتح عيني المرء على اتساعهما ليبصر الوجه الدميم لعدم الإنصاف، ويرسخ في أعماقه اليقين بأن أشواطا بعيدة تفصله عن مراده، وهذه الخيبة تتضاعف مع المشقة التي يكابدها المرء في التعبير عن الظلم الذي يرزح تحت وطأته بطريقة تخلو من المرارة أو الاعتبارات الشخصية.
والحال أنه في غمار الحياة اليومية، قلما يجد الإنسان وقتا ينفق فيه جهدا عقليا للنظر في هذه الفكرة ويرسم طريقة للتعامل معها، ويزداد الأمر صعوبة مع إدراكه أن هناك مصالح ينبري أصحابها لتثبيت الأوضاع على ما هي عليه، وذلك جزء من صراع المصالح وتضاربها، ووفاء هؤلاء لمصالحهم يدفعهم إلى إطلاق خطاب سياسي اجتماعي وعظي يمارس بأتم اللياقة والتهذيب، ويمزج بين التكريه في تغيير الوضع القائم أو تبديله، ورسم خيارات زائفة تستند إلى الإنشائيات إياها عن أهمية الطموح والجهد والمثابرة في تحقيق المرء لأهدافه ومبتغاه. والأبرياء الذين يصدقون هذا الخطاب يضعون عقولهم في صناديق محكمة الإغلاق، ويبعدون بذلك أنفسهم عن الواقع، ولا يعترف بهم الواقع بالمقابل، وفي ذلك على عمومه إعادة اعتبار لفكرة الإضراب وأبعادها الاجتماعية. وبغض النظر عن المساقات التي تصنع الإضراب بوصفه حركة مطلبية، فإن الحق في الإضراب يعدّ حقا من حقوق الإنسان، ومن الأفضل أن تضفى عليه الحماية أكثر من أي وقت مضى، ولا بد للمجتمع من أن يتوافق مع الالتزامات الدولية بشأن الإضراب، فممارسة الحق في الإضراب هي سمة للمجتمع الحر الذي تكون فيه تناقضات المصالح مقبولة بوصفها أمرا طبيعيا، وينظر لتعارض الأفكار فيه على أنه أمر صحي. ولا بد من أن هناك خللا ما، حين يتصاحب الإضراب مع سؤال عريض: لماذا يلجأ الناس إليه؟ في الوقت الذي تعد فيه الإضرابات مؤشرا على حيوية المجتمع وفعاليته، فالمؤكد أنه لا وجود لسعادة كلية يستظل بظلالها العمال والموظفون كافة، فقد يكون الإضراب محبطا ومزعجا، ولكن الأمر مشابه لممارسة بقية حقوق الإنسان، أما الرغبة في دفع الإضرابات بعيدا عن المجتمع فتشترط، بدءا، القدرة على توفير حلول منصفة وعادلة لمشكلات العمل وشروطه.الإضراب كان أحد أهم التعبيرات عن الخيال والعمل السياسي منذ عصر الحداثة، والذين يقولون بالقدرات الهائلة للتحركات المطلبية للإضراب والاعتصام يشيرون إلى أهمية مواءمتها مع التكنولوجيا، وبخاصة مساهمة التكنولوجيا الرقمية، وللحق فقد كان الدور الذي قامت به التكنولوجيا الرقمية في الحركات الجماهيرية والمطلبية مؤخرا كالربيع العربي واحتلال وول ستريت وميدان تقسيم محوريا بامتياز، وأبرز بشكل جلي العلاقة الحيوية بين التكنولوجيا والحقوق المطلبية، لكن من غير المنطقي ومن غير المقبول فك الارتباط بينهما في عصر العولمة الرقمية، فالغموض الذي يكتنف الممارسات الاجتماعية، هو في وجه من وجوهه، صبياني محض.
مقالات
الإضراب وأبعاده
24-04-2016