الأساس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية الروسية هو أن حكم القانون كذبة كبيرة، والسياسة الخارجية الروسية تقوم في مطلقها على العثور على أشخاص في الغرب يتفقون معها في ذلك، ولئن كان التفكير في وجود سياسي أميركي يعمل وكيلا للمصالح الروسية في قلب العاصمة الأميركية أمرا مستبعدا فإن ترامب في حال دخوله المكتب البيضاوي سيغدو المندوب المحلي لروسيا في المستقبل.

Ad

حجبت الحرب الكونية ضد "داعش"، التي ما فتئ الرئيس الأميركي أوباما يلوك أهميتها ليل نهار، أهمية ما يحدث في الداخل السياسي الأميركي نفسه، وأظهرته فصلا روتينيا على هوامش السباق الرئاسي في أميركا، فقد بدا لأغلبية الزعماء العالميين أن التعامل مع ظاهرة دونالد ترامب، بوصفه إحدى طرائف العاصمة العالمية لصناعة السينما والترفيه، استنتاج متسرع ربما أملاه يقين لا يأتيه الشك بعراقة النموذج السياسي الأميركي وصلابته، وقدرته بالتالي على أن يطهر نفسه بنفسه من الشاذّ والمستهجن.

ولكن هذا اليقين أخذ في الانكماش والتراجع مع التقدم الذي يحققه ترامب، فالكثيرون يبصرون مياه الملهاة السوداء لدونالد ترامب تنبع من وحول السياسة المرتجفة والعاجزة للرئيس الأميركي أوباما، فالأخير، صاحب الخطوط الحمراء إياها، انسحب من الكرة الأرضية فعلا وأثراً وملأها ثرثرة وخطابة، تاركا بوتين يسدّ الفراغات بأسلوبه المألوف، فأوباما لم يتحرك قيد أنملة إزاء تحويل بوتين المدن السورية إلى غروزني أخرى قتلا ودمارا، أو لاحتلاله جنوب أوكرانيا وشرقها، واستئساده على كتلة أوروبا الشرقية وحزب الناتو نفسه.

هذا الانكفاء الأميركي عن العالم وشؤونه مصحوب بالضعف في الرؤى والفاعلية السياسية، بوسعنا أن ندرك درجة هزاله وسقمه حينما نقارن على سبيل الإحاطة بين أداء وزيري خارجية البلدين الماكر سيرغي لافروف والمهترئ جون كيري. تلك الحقائق مجتمعة هي ما جعلت ترامب صنيعة تلفزيون الواقع يوجه المديح غير مرة إلى القيادة الحازمة والكفؤة التي يسوس بها بوتين روسيا، فترامب الشعبوي والزائف يرى أن ما يجمع أميركا بروسيا أكثر مما يفرقهما، مما دفعه للمطالبة بإلغاء منظمة "الناتو" التي لم يعد هناك في نظره ما يسوغ وجودها.

ومنذ بداية حملته الانتخابية للرئاسة في الصيف الماضي، جهر ترامب بالقول في أكثر من مناسبة بأنه سيؤسس لوضع متناغم ومنسجم مع الرئيس فلاديمير بوتين، وعزز هذا الميل الغريب بإشارته في إحدى المناسبات الانتخابية إلى أن السياسة الأميركية في أوروبا يجب أن تضع في الاعتبار مصالح روسيا، بل ذهب خطوة أبعد باختياره سياسيا يعمل مستشارا لشركة الغاز الروسية ويعدّ أبرز الأصوات المدافعة عن السياسات الروسية في أميركا مساعداً له.

وقائع كهذه توضح سبب إعجاب ترامب ببوتين، فهو يراه التجسيد الشاخص لما كان يطمح أن يكون عليه في الواقع، وأنه شبيه به من حيث كونه صانع إمبراطورية مالية لا يتورع عن انتهاك القواعد والقوانين، وهنا تكمن المصيبة الكبرى، فالأساس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية الروسية هو أن حكم القانون كذبة كبيرة، والسياسة الخارجية الروسية تقوم في مطلقها على العثور على أشخاص في الغرب يتفقون معها في ذلك، ولئن كان التفكير في وجود سياسي أميركي يعمل وكيلا للمصالح الروسية في قلب العاصمة الأميركية أمرا مستبعدا فإن ترامب في حال دخوله المكتب البيضاوي سيغدو المندوب المحلي لروسيا في المستقبل، وأغلب الظن ألا أحد يريده هناك.