في عام 1972 التقط مصور أميركي صورة لفتاة من فيتنام، تجري عارية مذعورة، إثر تعرضها لقصف بقنابل النابالم؛ وهي الصورة التي يسود اعتقاد واسع بأنها كانت أحد الأسباب المهمة لإنهاء حرب فيتنام.
تسببت تلك الحرب في مقتل نحو 1.1 مليون فيتنامي، وجرح ثلاثة ملايين، وخلّفت نحو 13 مليون لاجئ، بالإضافة إلى أكثر من 57 ألف قتيل بين القوات الأميركية.توضح صورة الفتاة، وتدعى "كيم فوغ"، مدى الأسى الذي تحمله الشعب الفيتنامي بسبب تلك الحرب المجنونة بين الشماليين والجنوبيين، والتي تدخلت فيها الولايات المتحدة، على خلفية حربها ضد النفوذ الشيوعي في المنطقة.لقد أثرت الصورة في العالم أجمع، ورغم أن الرئيس الأميركي نيكسون نفى صحتها آنذاك، فإن المصور الذي التقطها حصل بسببها على جائزة "بوليتزر"، مخلداً اسمه بين أفضل المصورين في العالم، كما أن "كيم" نفسها صارت لاحقاً رمزاً إنسانياً للسلام، وباتت سفيرة للنوايا الحسنة لـ "اليونسكو".تجسد صورة "كيم فوغ"، المعروفة باسم "فتاة النابالم"، أفضل مثال لما يمكن أن يفعله الإعلام إذا أراد أن يسهم في "صناعة الإنسانية".كانت علاقة الإعلام بصناعة الإنسانية موضوع منتدى الإعلام العربي في دبي هذا العام، فعلى مدى يومين خلال الأسبوع الماضي، اجتمع نحو 2000 من السياسيين والإعلاميين والأكاديميين العرب والأجانب في تلك المدينة الوثابة، ليبحثوا في سبل تعزيز دور الإعلام في صناعة الإنسانية، ويناقشوا الأساليب التي يمكن من خلالها ترشيد الممارسة الإعلامية لتصبح أكثر اقتراباً من القيم وابتعاداً عن الشحن والتعبئة والتهييج والإثارة. اتفق معظم الحاضرين على أن الإعلام يمكن أن يؤدي دوراً مؤثراً لتخفيف معاناة البشر، والحض على اتخاذ القرارات المناسبة، وتكوين الآراء المواتية لخدمة قضايا الإنسانية.فمن منا ينسى صور "مذبحة قانا" التي جللت شاشات العالم بالأسى، حين أظهرت الأطفال المحروقين إثر القصف الإسرائيلي، في عام 1996، وهي الصور التي أدت دوراً مؤثراً في صياغة صورة إسرائيل لدى قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي.أما التغطية الخاصة بمحمد الدرة، ذلك الطفل الفلسطيني، الذي أطلقت السلطات الإسرائيلية الرصاص عليه وعلى والده، أثناء انتفاضة الأقصى في عام 2000، فقد حركت بدورها مشاعر الكثيرين في العام أجمع، وأصابت إسرائيل بأضرار كبيرة، وظلت قيداً على الممارسات غير الإنسانية للسلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.التغطية التي كشفت انتهاكات القوات الأميركية للأسرى العراقيين في سجن "أبو غريب"، في عام 2004 أيضاً كان لها تأثير حاسم في إعادة صياغة صورة التدخل الأميركي في العراق.ويمكن ببساطة القول إن تلك التغطية التي انطلقت من منطلق إنساني، يتعلق بحقوق الإنسان الفرد المحتجز، مهما كانت التهم الموجهة إليه، كانت تغطية مثالية، لكونها خففت من معاناة المعتقلين وآلامهم، وأجبرت واشنطن على فتح تحقيق في المسألة، وهو التحقيق الذي أدى إلى توقيع عقوبات بحق المتجاوزين من أفراد الجيش الأميركي.وكانت تلك التغطية مثالية من منطلق آخر يتعلق بأنها ظهرت في الصحافة الأميركية نفسها، وبواسطة صحافيين أميركيين، وأن الإعلام الأميركي تعامل معها بشفافية ومهنية، رغم أنها شكلت ضغوطاً كبيرة على صورة الولايات المتحدة، وعرقلت مشروعها في العراق، ووضعت قيوداً على أي تدخل أميركي لاحق في أي من دول العالم، وعززت قضية حقوق الإنسان في العالم. في عالم 1993 كان المصور الجنوب إفريقي "كيفين كارتر" في رحلة عمل إلى جنوب السودان، الذي كان أطفاله يعانون المجاعة في تلك الأثناء، حيث تفقد العمل الجاري في مجمع لمنح المساعدات الغذائية للسكان المحليين، قبل أن يجد طفلة مريضة هزيلة بسبب نقص التغذية، تعاني في طريقها للوصول إلى مستودع الغذاء، في وقت يقف بجوارها نسر، يرقبها متربصاً، لاختيار الوقت المناسب للانقضاض عليها. لقد التقط كارتر تلك الصورة بالفعل، وهي الصورة التي باتت تعرف لاحقاً بصورة "النسر وطفلة المجاعة"، ورغم أن المصور انتحر عقب حصوله على جائزة "بوليتزر" عن تلك الصورة، فإن أثرها ظل فعالاً، خصوصاً لأنها ألقت الضوء على معاناة أطفال السودان من جراء نقص الغذاء. لكن العام الماضي حمل إلينا تغطية جديدة اتخذت طابعاً إنسانياً مآساوياً، وهي التغطية التي رافقت غرق الطفل الكردي "إيلان" على الساحل التركي، حين كان بصحبة عائلته التي حاولت الهجرة إلى أوروبا بطريقة غير مشروعة.يعاني الشعب السوري أزمة إنسانية مأساوية خطيرة؛ إذ تشير الإحصاءات التي أعدتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أنه، وفي العام الخامس للأزمة السورية، بات هناك أكثر من 4.6 ملايين لاجئ سوري في دول الجوار، وأكثر من 90 ألف سوري طلبوا اللجوء إلى أكثر من 90 دولة خارج الإقليم. كما بلغ عدد المواطنين الذين يحتاجون مساعدات إنسانية داخل سورية نحو 12.6 مليون سوري، فيما يبلغ عدد النازحين بينهم نحو 7.6 ملايين نازح.لكن تلك الأرقام الجافة، والعبارات الجامدة، والملايين المنثورة بين تمييزي اللاجئ والنازح، لم تصنع تغييراً، ولم تحرك العالم ليتخذ القرارات الصحيحة الكافية لمقاربة تلك الأزمة؛ وهو الأمر الذي ربما نجحت فيه صورة الطفل "إيلان".فبعد نشر الصورة على نطاق واسع باتت أزمة اللاجئين السوريين على رأس أجندة أولويات العالم السياسية والإنسانية، وفي مستهل نشرات الأخبار، و"مانشيتات" الصحف، وهو الأمر الذي أدى إلى تخصيص أكثر من عشرة مليارات يورو مساعدات في أقل من شهر لهؤلاء اللاجئين المنكوبين.تفيد دراسات علمية أجرتها الأمم المتحدة أن تسليط الإعلام الضوء على القضايا ذات الطابع الإنساني، يجعل تلك القضايا في بؤرة اهتمام الجمهور وصناع القرار حول العالم، وهو الأمر الذي ينعكس لاحقاً في تشخيص نطاق الاحتياجات الإنسانية والسياسية، بما يخفف معاناة هؤلاء المتضررين، ويقدم يد العون لهم، ويحمي القيم الإنسانية في آن.تلك هي القضية التي حاول منتدى الإعلام العربي في دبي أن يسلط الضوء عليها... وقد فعل ذلك باقتدار ونجاح.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
كيف يصنع الإعلام الإنسانية؟
15-05-2016