رؤى اقتصادية عربية... فهل من جديد؟
أعلنت أكثر من دولة عربية، في الأسابيع القليلة الماضية، عن رؤية اقتصادية للخمس عشرة أو عشرين سنة القادمة (محلياً سُمّيت "وثيقة إصلاح اقتصادي ومالي" وهي مشتقة من الرؤية التي سبق طرحها للفترة الممتدة حتى عام 2035)، فما القواسم المشتركة بين هذه الرؤى؟ وهل تحمل، بالفعل، تغييراً جوهرياً في السياسات الاقتصادية؟من يقرأ الخطوط العريضة للرؤى الاقتصادية المطروحة سيجد بينها قواسم مشتركة، يمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية:
1- تشترك جميع الرؤى الاقتصادية المطروحة من بعض الأنظمة العربية في توجهها العام الذي يتبنى سياسات اقتصادية رأسمالية نيوليبرالية (الليبرالية الجديدة) تسوّقها منظمات مالية عالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وهي سياسات اقتصادية معروفة، على مستوى العالم، بعدم استقلاليتها عن المراكز العالمية، وعدم مراعاتها لقضية العدالة الاجتماعية، ناهيك عن مشاكلها وآثارها الاجتماعية والسياسية المتشابهة مثلما ذكرنا في مقالات سابقة. 2- الرؤى الاقتصادية التي طُرحت تُمثّل أنظمة الحُكم والقوى القريبة منها اقتصادياً، وبالتالي، سياسياً، ولذا فهي رؤى اقتصادية رسمية أحادية الجانب لم تُشارك الشعوب في إعدادها، ولم تُطرح للنقاش المجتمعي والمدني العام.3- لم يسبق طرح الرؤى الاقتصادية، أو على الأقل يترافق معها، مشروع إصلاح سياسي-ديمقراطي جذري وشامل بالرغم من أنه لازم لأي مشروع إصلاح اقتصادي جدّي، وذلك لأنه يشتمل على تجديد البُنى السياسية من خلال توسيع قاعدة المشاركة في السلطة والثروة، ومكافحة جدية للفساد المستشري في المنظومة السياسية، وخلق أو تفعيل دور المؤسسات الدستورية وبالذات المؤسسة التشريعية التي حُجّم دورها في الدول التي يوجد فيها "برلمان" وأصبحت شكلاً بلا مضمون، علاوة على أنه يفتح المجال أمام منظمات المجتمع المدني لممارسة دورها المطلوب بعد أن تم تحويلها في كثير من الدول العربية إلى منظمات شكلية تدور في فلك الحكومة وتُنفّذ أوامرها.4- هناك غياب شبه كامل لأجهزة مستقلة تقوم بدور المتابعة، والرقابة، وتقييم مخرجات السياسات الاقتصادية التي احتوتها الرؤى المطروحة حالياً، فضلا عن فوضى العمل السياسي أو عدم إشهاره وتنظيمه على أسس مدنية ديمقراطية وبرامج وطنية، بحيث يكون هناك معارضة سياسية وطنية فاعلة تراقب تنفيذ السياسات الاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية-السياسية، ثم تقوم بطرح بدائل جديدة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك وجود ترسانة ضخمة من القوانين المُقيّدة للحريات العامة ومن ضمنها حرية الرأي والتعبير والاحتجاج والاعتصام والإضراب فإنه لا مجال أمام الرأي العام للضغط على متخذي القرار بشكل ديمقراطي، ولا مجال أيضاً للاستماع لوجهة نظر مختلفة عما يطرحه الإعلام الرسمي، وهو الأمر الذي يؤكد، مرّة أخرى، أنها رؤى اقتصادية أحادية الجانب. وحتى في حالة السماح بوجود آراء أخرى مختلفة فإنها تبقى مجرد آراء تُطرح في الفضاء العام من أجل تخفيف حدة الغضب الشعبي في حين يستمر تنفيذ الرأي الرسمي.بناء على ما سبق فإن الرؤى الاقتصادية التي طُرِحت إعلامياً في الآونة الأخيرة في أكثر من بلد عربي لم تأت بجديد يعالج جذرياً المشاكل الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية التي تعانيها مجتمعاتنا، بل إنها أعادت تأكيد مضمون السياسات الاقتصادية السابقة ذاتها وتوجهها بالرغم من انحيازها الاجتماعي ومشاكلها الكثيرة، وذلك بعبارات جديدة ترافقها حملات إعلامية ضخمة ومُوجّهة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن السلطة السياسية تابعة للسلطة الاقتصادية فإن البنى السياسية بقيت كما هي من دون تجديد أو تغيير مدني ديمقراطي تتطلبه ظروف المرحلة الحالية وطبيعة العصر وروحه.