قبل أن أعلق على آخر محطات "التزوير" التي وصلنا إليها فقد وجدت من المناسب الحديث عن القاسم المشترك بين الجهاز الإداري في الدولة (وزارات، هيئات، مؤسسات) وبين النظام العالمي للبيئة، وهو الصبر و"طولة بال" الطبيعة علينا كبشر ونحن نمارس عليها أقصى درجات "الوساخة" والعبث سطحا وعمقا، بالرغم من طيبتها وتسامحها معنا حتى شبهها المخلصون لها "بالأم".

Ad

أمنا الطبيعة تعبر عن غضبها بين الحين والآخر "بذرابة"، إعصار صغير يأخذ بطريقه ولايتين وكم قرية، بركان "يفزع" لأمه الزعلانة فيرش السماء بأطنان من الألوان الداكنة، تسونامي يشن غارة مباغتة لا عاصم منها، ينقل فيها البحر كــ"عفش" إلى قمم الجبال، كل ذلك وأكثر في سبيل أن يفهم ويستوعب البشر أن ما يفعلونه من فساد وإفساد في الغابات وطبقة الأوزون وتفجيرات نووية وتخريب أنهار وصب المجاري في البحار سيقودها إلى إعلان نهاية كوكبهم بعد أن بدأت فعلا برفع درجة الحرارة وتبديل أحوال الطقس في كل أرجاء العالم.

صبر الطبيعة أسطوري ولا مثيل له، لأن ما ستفعله بنا عندما تصل إلى مرحلة الغضب النهائي أيضا أسطوري ولا مثيل له، ما سبق كان هو المقارنة مع الجهاز الإداري في الدولة الذي كان فيما مضى مثل الطبيعة حنونا وخدوما ويؤدي أعماله بالأمانة والصدق.

هذا الجهاز الإداري تحمّل الكثير من السياسات المتقلبة لأن أساسه متين ومهني، وما يأتيه من مخرجات التعليم تتوافر فيه المواصفات الأساسية لتسيير العمل واستلام دفة القيادة، ومع مرور الوقت بدأت عمليات التخريب والعبث بالجهاز الإداري من الداخل والخارج، الداخل عبر تعيينات "ضحك ولعب وجد وحب" والخارج عبر انحدار مستوى التربية والتعليم تبعا لتقلص أعداد القدوة وكثرة أعداد "القداوة".

هذه السياسات المتقلبة التي استنفدت رصيد كفاءة الجهاز الإداري أوصلتنا اليوم إلى مرحلة "التهنيق" والعجز عن القيام بواجباته، ذلك العجز متعدد الوجوه: عجز عن تقديم الحلول، وعجز عن مواجهة الأزمات، وأخيرا عجز عن مواكبة المشاريع والرؤى التي تتحدث عنها الحكومة، سواء الحكومة الحالية أو أي حكومة مؤهلة تريد العمل "جد" بدون "ضحك ولعب وحب".

في الختام كهرباء تنقطع، مدرس عربي يرسب في امتحان العربي، لحم مغشوش، دواء مغشوش، طبيب مزيف، مناضل مزيف، برلمان يبطل مرتين، فاسد ينظر في النزاهة، تزوير طلب مساعدة اجتماعية، معاق مزيف، قيادي مجهول يكرم إعلاميا مزورا، اقتصاد مزيف، نظام ديمقراطي أكذوبة... إلخ. هل تريدون المزيد؟ أعتقد أنه يكفي فقط أن تذكروا أن صبر الجهاز الإداري على خدمة الناس أقصر من صبر الطبيعة، وقريبا جداً لن أستغرب صدور خطاب رسمي مطبوع على ورق "مسطر" دون شعار أو رقم صادر، لأن المسؤول قال: "أنا توقيعي هو الضمانة وهو فوق القانون"، وهناك فعلا من بدأ يلامس ذلك المثال.