الإعلام ليس عصا موسى

نشر في 01-05-2016 | 00:00
آخر تحديث 01-05-2016 | 00:00
 ياسر عبد العزيز  يسود جدل كبير اليوم حول مدى القدرة التأثيرية للإعلام، وقد وصل هذا الجدل إلى حد أن قطاعاً مؤثراً من المسؤولين والقادة والنخب والجمهور بات يعتقد أن المجتمعات والدول يمكن أن تُحكم عبر وسائل الإعلام. تتباين المساحات التي يُظن أن الإعلام يشغلها في السيطرة على الخرائط الإدراكية للجمهور؛ فيرى البعض أن الإعلام سلاح خطير، يمكن حسم المعارك بواسطته، في حين يرى آخرون أن الإعلام أداة مساعدة، لا يمكن أن تحقق أثراً إلا لو عملت عناصر القوة الشاملة الأخرى بموازاتها وأدت أدوارها.

يتمحور هذا الجدل إذاً حول تقدير مساحة الدور الذي يؤديه الإعلام، وما إذا كان هذا الدور يمكن أن يفتئت على بقية السلطات ويحل محلها، أم أنه دور لسلطة من السلطات، دُرج على اعتبارها "السلطة الرابعة"، أم أنه مجرد أداة يمكن أن تساهم مع أدوات أخرى في تحقيق الأهداف العليا ضمن التخطيط والإدارة الاستراتيجيين.

تفيد الدراسات الأكاديمية أن الإعلام يؤدي أدواراً حاسمة في تشكيل الرأي العام تجاه القضايا والأزمات، من خلال أربع عمليات رئيسة يقوم بها؛ أولاها هي عملية تشكيل إطار القضايا Issue Frame، وثانيتها عملية إرساء الأولويات Agenda setting، وثالثتها عملية بناء الصور الذهنية Image Frame، ورابعتها عملية التأطير Strategy Framing.

في عملية تشكيل إطار القضايا، تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحجبه عن قضايا أخرى، من دون النظر إلى مدى أهمية تلك القضايا في سلم أولويات الجمهور.

ويعتقد باحثون إعلاميون أن قيام الإعلام بإغفال قضايا مهمة، أو منحها مساحات وأوقات عرض لا تتناسب مع مدى أهميتها المفترضة، يؤدي تلقائياً إلى تقليل الاهتمام بها من قطاعات الجمهور.

تقوم وسائل الإعلام بعرض القضايا المختلفة على جمهورها بشكل مرتب تبعاً لأهميتها، ووفق نظرية "تحديد الأولويات"، فإن "ثمة علاقة إيجابية بين ما تذكره وسائل الإعلام في رسائلها، وبين ما يراه الجمهور مهماً"، ويرى بعض الباحثين أن تلك النقطة بالذات تمثل مكمن أهم تأثير لوسائل الاتصال؛ أي "مقدرتها على ترتيب أجندة الجمهور بخصوص القضايا والموضوعات المطروحة".

ورغم بعض التشكيك في قدرة تلك النظرية على توضيح التأثير المباشر لوسائل الإعلام على "الخرائط الإدراكية والمعرفية واتجاهات الجمهور حيال القضايا محل الاهتمام"، فإن أحداً لا يدحض وجود روابط بين التعرض لوسائل الإعلام من جهة، واتجاهات الجمهور نحو قضايا معينة ومدى إدراكه لها من جهة أخرى.

تفيد دراسات تحليل الخطاب أن الأدوار والصفات المنسوبة إلى أسماء العلم والعمليات التي ترد في النصوص والتقارير الإعلامية بشتى أنواعها تؤثر في إدراك الجمهور للقوى الفاعلة في القضايا محل الاهتمام؛ وهو أمر يعزز قدرة وسائل الإعلام على عملية "صنع الصورة الذهنية"، من خلال أطر الصور المقدمة عبر المواد الإعلامية.

ومن بين النظريات الأكثر اعتباراً في تعيين تأثير معالجة الشؤون العامة في وسائل الإعلام المختلفة، تأتي نظرية "تحليل الإطار الإعلامي"، وهي النظرية التي تقدم "تفسيراً منتظماً لدور وسائل الإعلام في تشكيل الأفكار والاتجاهات تجاه القضايا البارزة، وعلاقة ذلك الدور باستجابات الجمهور المعرفية والوجدانية".

ووفق نظرية "تحليل الإطار الإعلامي"، فإن الأفكار لا تنطوي على مغزى معين بحد ذاتها، إنما تكتسب مغزاها من خلال وضعها في إطار Frame يحددها وينظمها ويضفي عليها قدراً من الاتساق، من خلال "التركيز على بعض جوانب الموضوع وإغفال جوانب أخرى".

يَبرز الإطار إذاً، وفق تلك النظرية، بوصفه فكرة محورية، تنتظم حولها الأحداث الخاصة بقضية معينة، وهو أمر يمتد ليشمل فئات مختلفة من الجمهور، تتنوع خصائصها الديموغرافية والمعرفية.

ولذلك، فإن السلطة التي تنجح في إطلاق مصطلح "محور الشر" على دول معينة في العالم، تكون قد أرست صورة ذهنية سلبية لتلك الدول لدى قطاعات في الجمهور، والسلطة التي تنجح في إقناع العموم أن عملية "رفع الأسعار"، لم تكن سوى "تحريك الأسعار لتحفيز النمو وترشيد الاستهلاك"، تكون قد أضفت "إطاراً" إيجابياً على ممارسة يراها معظم الجمهور سلبية.

سنتذكر هنا عمليات ناجحة قامت بها وسائل إعلام تقف وراءها دول وإرادات سياسية؛ مثل "غزو العراق وتدميره"، الذي قُدم بوصفه "تحريراً وانتقالاً ديمقراطياً ومواجهة لأسلحة الدمار الشامل"، و"الحرب في سورية"، التي قدمتها الأطراف المختلفة من زوايا عديدة؛ مثل "تحرير سورية"، و"إنقاذ السوريين"، و"إطاحة الأسد"، و"محاربة الإرهاب"، وغيرها.

ورغم تلك القدرة التأثيرية الواسعة لوسائل الإعلام، فإن الاستسلام لنظرية "الحكم عبر وسائل الإعلام"، أو أن "الإعلام قادر على تفعيل أي سياسة"، خطأ.

ولو كان هذا الأمر صحيحاً لما هُزم هتلر بالتأكيد، وقد كان يمتلك آلة إعلامية جبارة ضخمة، يقودها "غوبلز"، وهو أحد أقطاب مجال الدعاية والإعلام الموجه.

حتى بشار الأسد، لم ينجح في إنفاذ إرادته، رغم هيمنته على المجال الإعلامي في بلاده لأكثر من عقد تحت سلطته، بعد عقود ثلاثة تحت سلطة والده. أما شاه إيران، فقد حوّل الإعلام الإيراني إلى أدوات دعاية مباشرة لحكمه، ولم يكن لدى الخميني قدرة على الوصول إلى الإيرانيين سوى من خلال شرائط الكاسيت المهربة، ومع ذلك، فقد شاهد العالم أجمع الشاه صاحب الترسانات الإعلامية الضخمة يفر من بلاده هائماً بلا مأوى، وشاهد الخميني، الذي لم يكن يملك سوى شرائط الكاسيت المهربة، يهبط في مطار طهران "ملكاً متوجاً، وحاكماً بسلطات تشابه تلك التي حكم بها كسرى".

هيمن مبارك على وسائل الإعلام المصرية العامة والخاصة لثلاثة عقود، لكن هذه الهيمنة لم تنجح في منع اندلاع الانتفاضة في يناير 2011، وإطاحة حكمه، وظن كثيرون أن "الإخوان"، المدعومين بمنظومة إعلامية إقليمية ومحلية ضخمة، وميليشيات إلكترونية منظمة على "السوشيال ميديا"، قادرون على تطويع الدولة والمجتمع، ولكنهم فشلوا وسقطوا.

الإعلام أداة تأثير قوية وفعالة ونافذة، لكنها لا يمكن أن تحكم أو تعالج عوار الحكم طويلاً، وأفضل ما تفعله منظومة إعلامية قوية وقادرة أن تساند الحكم، فتعظم فرصه، وتقلل من خسائره.

* كاتب مصري

back to top