"ليو" هو قطنا الأليف الذي جاءنا دون سابق إنذار، ويبدو أنه سيستوطن البيت ويبقى فرداً في الأسرة. هكذا تحصل الأشياء أحياناً رغماً عنك! لم أصدق ابنتي حين أعلنت مفاجأتها لي، وهي اقتناؤها لقط من فصيلة "سكوتش" بعمر شهرين، رمادي الفراء بأذنين معقوفتين إلى الأسفل، وبسعر مئتي دينار كويتي.

Ad

وأمام هكذا قرارات نافذة تشعر أنك لا حول لك ولا قوة، وأنك لم تعد سيد البيت ولا سيد القرار بعد أن كبر الأبناء وأزاحوا رغباتك وقراراتك إلى منطقة الظل!!

كنتُ ولا أزال أتحفظ في مسألة اقتناء الحيوانات الأليفة، لكونها أرواحاً رهيفة تستلزم الاهتمام والعناية والمتابعة. ولي تجارب غير سارة إبان طفولة أبنائي وإلحاحهم على اقتناء مثل هذه الكائنات: طيور وأرانب وهاميستر وسلاحف وكاسكو. وللأسف فقد انتهت حياة هذه الكائنات إلى النفوق بعد طول حبس في الأقفاص رغم الجهود المبذولة للإبقاء على حياتها! وآخرها الطائر الصيني الأصفر الذي طالما شنّف أسماعنا بتغريده العذب، ثم خفت التغريد يوماً بعد يوم، لنراه أخيراً ذات صباح وقد سقط ميتاً في قاع القفص!

ولهذا أجد نفسي أتساءل عن جدوى حبس هذه الكائنات في بيوتنا من أجل متعة سخيفة بلا معنى. والآن يأتينا هذا القط (ليو) - كما سمّته ابنتي – ليعيد لي ذات التساؤل. ويبدو أن مسألة وجود "ليو" في البيت غدت مع مرور الأيام أشبه بواقع لا بد من التعايش معه ومع طقوسه، بل الدخول شيئاً فشيئاً في حالة من الألفة والحنوّ مع الكائن الرمادي الذي تلاحقني نظراته الآسرة أنى تحركت.

يبدأ طقس اليوم مع "ليو" الذي يبادر بإطلاق موائه الصباحي طلباً للصحبة بعد وحدة الليل. وما أن يقبل أحدنا عليه حتى يبدأ تمرين الصباح كما أسميه. والتمرين هو الدخول بين الساقين والتمسّح بهما ذهاباً وإياباً لعدة مرات، تعبيراً عن تحية صباحية غدت من ضمن العادات والتقاليد اليومية. بعد وجبة الفطور يدب النشاط في "ليو" فيبدأ ألعابه الخشنة، لينال أحدنا نصيبه من العضّ والخربشات تعبيراً عن غريزة القطط التي كانت في فطرتها برية تهوى الصيد والانقضاض، ووجودها في البيوت قد يقلل من هذه الغريزة لكنه لا يمحوها. ثم سرعان ما تخف الخشونة لتتحول إلى لهو ظريف بالكرات القطنية وسائر الألعاب، وكأنك وأنت تراقبه إزاء طفل نسي نفسه في دائرة من مرح وهياج. وما أن أترك "ليو" لحاله وتجواله المعتاد في أنحاء البيت وأنشغل في قراءة صحيفة الصباح حتى أجده وقد أتى منسلاً بهدوء ليقبع في حِجْري مسترخياً وقد أمال رأسه على ذراعي بدلال، مما يعني أن ساعة المساج قد حانت! وعلى (الماما) أن تبدأ التربيت والتدليك على الرأس والعنق والظهر، فيغمض عينيه باسترخاء ويطلق من حنجرته ذلك الهرير المتواصل دلالة الرضى والسعادة.

بعد قدوم "ليو" حاولتُ أن أقرأ كثيراً عن حياة القطط، وعن سلوكياتها وعاداتها، وأساليب العناية بها ونظامها الغذائي. وها نحن نجد أنفسنا إزاء كائن حي يتطلب العناية والطبابة وبند مصروفات للغذاء والاستحمام وزيارات (صالونات) التجميل لقص الأظافر والشعر، والقائمة تطول. هكذا يشغلنا "ليو"، الكائن الذي كثرت حوله الأساطير، وحاكت حوله الشعوب والحضارات معتقداتها وخرافاتها.

وتبقى القطط من أكثر الحيوانات غموضاً وغرابة، تطيل التأمل متوحدة بذاتها، أو تشخص في الفضاء كحكيم يرى أرواحاً وأشباحاً لا نراها. فقد اعتدنا من "ليو" ذلك الانتباه المفاجئ لشيء ما في الفراغ على حين غرة، ثم التحديق فيه ملياً بانبهار، حتى يغلب على ظننا أنه يلاحق ظل شبح أو طيف أو ربما جني يمر وراءنا، فتتنبه كل حواسه ويصيبه ذلك الفضول والهياج!

ورغم كل محاولاتنا لترتيب حياة "ليو" بما يتناسب ونظام حياتنا، فإنه في النهاية يختار بنفسه ما يريده وما يناسبه! فليس بالضرورة أن تكون السلة الوثيرة مكاناً لنومه، حين يختار أن ينام في مغسلة الحمام أو فوق رف الكتب أو داخل نشافة الملابس. وليس بالضرورة أن تكون الكرة القطنية هي اللعبة المفضلة، إذ قد يفضل عليها كيساً من الورق أو نكاشة أسنان مهملة أو الأسلاك الكهربائية. وهكذا يعيش "ليو" حياته كما يشاء هو وبمنطق لا ندرك مغزاه، لا كما تشاء قوانين البيت ونظمه!

ولله في خلقه شؤون.