الرئيس السيسي هو السياسي صاحب أكبر شعبية في مصر، وهو الرجل الأكثر تمتعاً بالثقة بين المشتغلين بالسياسة والعمل العام، لكنه مع ذلك يفقد دعم موالين له يوماً بعد يوم، وتتراجع نسبة تأييده باطراد.
تشير وسائل إعلام ومراكز بحوث دولية عدة إلى "شعبية السيسي الآخذة في التراجع"، أو "فقدان السيسي لبريقه"، كما قالت "فاينانشال تايمز" الأسبوع الماضي؛ وهو أمر يمكن أن يتضح ببساطة لأي متابع مدقق لما تذيعه وسائل الإعلام النظامية، ولما يتم تداوله عبر وسائط "السوشيال ميديا" في مصر، في الآونة الأخيرة.في الأسبوعين الأخيرين، تعرض الرئيس لهزة كبيرة في شعبيته، بسبب أزمة جزيرتي "تيران" و"صنافير"، واتسع نطاق معارضته، وانضم بعض المترددين والمحايدين إلى معسكر مناوئيه، وبات قطاع من المؤيدين المحبين مزعزع الثقة وقليل الثبات وضعيف الحجة، وليست تلك أول هزة تصيب شعبية "الرئيس المحبوب"، ولكنها أكبر الهزات وأكثرها جدية وخطورة.يعرف الباحثون في علوم السياسة أن شعبية أي زعيم تتراجع بعد فوزه بالانتخابات مباشرة، وتستمر في التراجع عادة حتى يظهر إنجاز جديد أو تأتي المنافسة الانتخابية مع منافس أقل شعبية، وترتفع توقعات المواطنين في أثناء الحملات الانتخابية بصدد السياسيين الذين يؤيدونهم، ويفرط السياسيون بدورهم في منح الوعود، لكن الأوضاع على الأرض سرعان ما تصفع المواطنين المؤيدين، ولغة التبرير التي يجيدها الساسة، ومعها الفزاعات والتحديات المفترضة، كلها لا تفلح في لجم الشعور بخيبة الأمل... لهذا تتردى شعبية الزعماء، في أعقاب انتخابهم.كان الرئيس السيسي محظوظاً، حين جاء على خلفية إطاحة حكم تنظيم "الإخوان"، ولكونه منتمياً لمؤسسة الجيش المصري.يحظى الجيش في مصر بمكانة رائعة، ويعتبره معظم العموم بمنزلة "عمود الدولة"، وإضافة إلى ذلك، فقد شعرت القطاعات الغالبة بالجمهور أن "الإخوان" يريدون تقويض الدولة المصرية العريقة، لذلك أرادت تلك القطاعات الخلاص بأي ثمن من حكم الفاشية الدينية، وكان السيسي، رجل الجيش، هو المُخلّص.كان هذا مشهداً افتتاحياً عظيماً، أمّن للسيسي شعبية تاريخية بامتياز، وقد وصل إلى سدة الرئاسة على إيقاعات حملة كان شعارها "كمل جميلك"، لم يكن من الصعب إذاً أن يتم استثمار تلك الشعبية في تحقيق نقلات نوعية في الأداء العام.صحيح أن أزمة "جهاز الكفتة"، التي تفجرت عشية الانتخابات مباشرة، أحدثت هزة في شعبية الرجل، خصوصاً أن المعارضين والمكايدين أحسنوا استخدامها، وأفرطوا في جلد الأنصار والمؤيدين بها، لكنها لم تشكل أزمة قاصمة؛ في ظل فورة التوقعات، والرغبة في دحر "الإخوان".بدأ السيسي حكمه بإصدار قرارات رفع أسعار الوقود، وهي القرارات التي حلت مثل طعنة مباغتة في ظهور بعض المؤيدين من محدودي الدخل، لكن أمكن تطويق التداعيات السلبية لهذه الأزمة سريعاً، خصوصاً أن الحجج والذرائع التي تم تقديمها للإقدام على تلك القرارات كانت منطقية ومقنعة، رغم ثقل الأثر على الطبقات الأكثر احتياجاً.ثقة الرئيس الكبيرة ووعوده المتكررة بالقضاء على الإرهاب في سيناء في فترة زمنية محدودة، دفعت كثيرين إلى التشكيك في مواقفه وتصريحاته، بعدما اتضحت صعوبة إنهاء التهديد الإرهابي في شبه الجزيرة، واستمرار التضحيات التي يبذلها المصريون من العسكريين والمدنيين هناك، لكن هذا الأمر لم ينل من شعبية الرئيس بالشكل الواضح، لأن قطاعات كبيرة في الجمهور تدرك صعوبة المواجهة مع الميليشيات الإرهابية، في ظل الدعم الكبير الذي تتلقاه من قوى إقليمية ودولية كارهة.يستخدم كارهو السيسي ونقاده مشروع قناة السويس كوسيلة للكيد له والنيل منه الآن، ويبلع كبار المؤيدين ألسنتهم غير قادرين على الدفاع عن المشروع، الذي تم الترويج له باعتباره حلاً سحرياً لأزمات التنمية والاقتصاد في مصر.لقد تم توفير موارد وجهود كبيرة لإنجاز مشروع القناة، وتم جمع نحو 60 مليار جنيه من المواطنين بفائدة كبيرة للتمويل، وحتى هذه اللحظة لا يمتلك أحد الإجابة الواضحة عن مدى "جدوى" مثل هذا الاستثمار.الأمر ذاته يمكن تكراره عند الحديث عن المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في شرم الشيخ، في مارس من عام 2015، وهو المؤتمر الذي وصفه الرئيس نفسه بأنه "ذراع مصر". لقد انتهى المؤتمر دون أن يحدث تغيير ملموس في حياة المصريين الاقتصادية والتنموية.تثور تساؤلات خطيرة وجدّية في شأن تقاعس مؤسسات الدولة عن تفعيل الاتفاقيات التي تم إبرامها في المؤتمر الاقتصادي، وتثور تساؤلات أخطر بشأن جدوى حفر تفريعة جديدة في قناة السويس بمليارات الدولارات، وكلها تساؤلات تخصم من شعبية السيسي وتهز الثقة به.يتراجع سعر الجنيه المصري باطراد في السوق السوداء، ويعجز الجهاز المصرفي عن إيجاد حلول ناجعة لهذا التراجع، وهو الأمر الذي يرفع الأسعار بشكل حاد (عجز مصر التجاري يتجاوز 50 مليار دولار أميركي سنوياً)، ويعوق الاستثمارات.مشكلة الحريات وحقوق الإنسان، وأخطاء الشرطة الكارثية، وقضايا مثل الطائرة الروسية والإيطالي "ريجيني"، كلها عوامل معاكسة، تربك أداء الدولة، وتخصم من شعبية السيسي، وتفاقم الضغوط عليه.يدافع السيسي، وأنصاره، بالقول إن إنجازات كثيرة تحققت في مجالات تثبيت الدولة، وإقرار الأمن، وإنهاء العزلة الخارجية، وتطوير البنية الأساسية، وكلها نجاحات حقيقية ويمكن إثبات جدواها، لكن يبدو أن تلك الإنجازات جاءت أقل من التوقعات، التي كان الرئيس نفسه قد حرص على رفع أسقفها لأقصى درجة ممكنة.من المنتظر أن تشهد مصر غداً بعض التظاهرات في ذكرى "تحرير سيناء"، التي تحل في 25 أبريل من كل عام؛ وهي الذكرى التي تحل هذا العام مع قدر من التشكيك في رئيس البلاد، من جماعات معارضة وبعض المناصرين والمحايدين.على الرئيس السيسي أن يدرك أن كل المشكلات التي وقعت على مدى العامين الماضيين من ولايته لم تكن مؤثرة أو خطيرة بمثل أزمة الجزيرتين، وعليه أن يبحث عن حل يوقف به هذا التراجع المستمر في شعبيته، لأن عواقب أي تغيير حاد في مصر الآن أكبر من أي قدرة على الاحتمال.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
لماذا يفقد السيسي بريقه؟
24-04-2016