منذ زمن سحيق في مجرة فضائية نائية جدا، اصطدمت وتوحدت اثنتان من الثقوب السوداء الهائلة،  كتلة كل واحدة منهما أكبر بثلاثين مرة من الشمس، وبعثت انفجارات قصيرة وقوية من موجات الجاذبية، فانتشرت طاقة الانفجار عبر الكون بسرعة الضوء، وخفت قوتها بانتشارها في الفضاء الهائل. بعد مرور أكثر من بليون سنة، وصلت طاقة الانفجار إلى الأرض كإشارة ضعيفة بشكل لا يصدق، واستمرت عُشر الثانية، وفي 14 سبتمبر 2015 اكتشف علماء من مرصد قياس موجات جاذبية تداخل الليزر (ليغو) في الولايات المتحدة موجات الجاذبية مثل ذبذبات لطيفة، وبهذا أثبتوا أول تأكيد لتنبؤ ألبرت أينشتاين قبل 100 سنة.

Ad

يستخدم مركز ليغو، الذي يعمل تحت إشراف المؤسسة الوطنية الأميركية للعلوم، اثنين من مقاييس التداخل المتقدمة، فعجائب التكنولوجيا الحديثة هذه، قع على نهاية الطرفين من البلاد، وقد وضعت حيز التنفيذ قبل وقت قصير من نجاح عملية قياس موجات الجاذبية المعروفة باسم (GW150914)، والتي تستخدم مبدأ تداخل الضوء، وكشفت هذه العملية السلالات في هندسة الفضاء والزمن الناجم عن موجات الجاذبية، وذلك عن طريق قياس التغيرات في طول التداخل ومقياسه، وفي حالة (GW150914) فقد تغير الطول بأقل من واحد في الألف من حجم البروتون.

كانت التحديات في الكشف عن مثل هذا التغيير الصغير هائلة، نظرا لأنواع مختلفة من الضوضاء التي يمكنها التأثير على القياس وتدمير وحدته، وقام ليغو بعزل الذبذبات الصغيرة والقصيرة خارج الفوضى المنتشرة في الفضاء من خلال مقارنة مقياسي التداخل الاثنين، فالصوت في المقياس الأول غير مرتبط بالصوت في المقياس الآخر، على عكس إشارة من موجة جاذبية عابرة، من شأنها أن تظهر في الأول في مكان ثم في مكان آخر، وقد تزامنت هذه الإشارة من GW150914 بهذه الدقة الرائعة بحيث يستبعد كونها حدثا زائفا.

بلا شك هذا الإنجاز يجب أن يفوز بجائزة نوبل، فالسؤال الوحيد هو الذي يستحق هذه الجائزة، فنجاح LIGO ليس انتصارا للتكنولوجيا فقط، بل هو أيضا، والأهم من ذلك، نتيجة قرن كامل من عمل المنظرين على أوصاف حسابية لموجات الجاذبية، ليس أينشتاين فقط، بل هناك أيضا ليوبولد إنفيلد، وجوشوا غولدبرغ، وريتشارد فاينمان، وفيليكس بيراني، وإيفور روبنسون، وهيرمان بوندي، وأندريه لشنيرويس.

وكان اكتشاف ليغو بالتحديد ممكنا بسبب الفيزيائي البولندي أندريه تروتمان، الذي قدم نظرية موجة الجاذبية بصرامة رياضية حادة، وبمساهمة العالم الفيزيائي الفرنسي تيبولت دامور، الذي طور الأدوات الحسابية العملية لاستخدام جبهات الموجات المرصودة لحل شفرة المعلومات حول مصادر الأمواج. وقد أسس عملهم قاعدة رياضية صلبة من الناحية النظرية التي جعلت نجاح ليغو ممكنا.

وأعتبر نظرية آينشتاين في النسبية العامة أعظم إنجاز فكري بشري على الإطلاق، ورغم ذلك لم يحصل أحد على جائزة نوبل لتطوير أسسه الحسابية، وقد منحت الجائزة لعلماء الفيزياء التجريبية الذين قدموا تأكيدات رصدية لبعض التنبؤات المهمة في النظرية، كما أعطيت أيضا لعلماء فيزياء الكم تقديرا لأعمالهم الحسابية البحت، ولكنها لم تُعط لمُنَظر باحث في النسبية. آمل أن تدرك لجنة نوبل هذا العام أهمية العمل النظري بإعطاء الجائزة بالنسب الصحيحة: لفيزيائي تجريبي، من أجل تطوير المفاهيم التكنولوجية وراء ليغو، ولاثنين من المنظرين الصافيين: تروتمان ودامور.  وهناك المزيد من الاكتشافات التي سيقوم بها "ليغو" ونظيره الأوروبي الذي يدعى "فيرغو"، فقياسات موجات الجاذبية لن توفر سوى نظرة ثاقبة للظواهر التي كانت حتى الآن بعيدة المنال، مثل الانفجار الكبير، وآفاق الثقب الأسود، وباطن النجوم النيوترونية، وبإمكانهم أيضا إحداث ثورة في فهمنا للكون.

وتصف نظرية النسبية العامة ظواهر فيزيائية واسعة النطاق: البشر والصخور والكواكب والنجوم والمجرات والكون كله، فميكانيكا الكم، من ناحية أخرى، حاصلة على القدر نفسه من النجاح في وصف الكون في أصغر المقاييس: الكواركات والإلكترونات، والذرات، والجزيئات.

وما زالت هذه النظريات الأساسية للفيزياء الحديثة متعارضة، إن لم تكن متناقضة، حيث لم يتم العثور على نظرية الجاذبية الكمية حتى الآن، على الرغم من الجهود المبذولة، وقد تم اقتراح عدة نماذج للجاذبية الكمية لظواهر معينة تشمل الثقوب السوداء، لكن بما أنه لم يتم اختبار أي منها تجريبيا، فلا أحد يعرف ما إذا كانت هذه النماذج صحيحة أم لا (في الواقع، بعضها يقود لمفارقات حادة).

واقتنع العديد من الفيزيائيين أن هذه المشاكل تدل على وجود عنصر مفقود في فهمنا للمبادئ الأساسية للطبيعة. مع الأسف في حالة من اليأس، وبكثير من الغطرسة، يشير البعض إلى مفاهيم مجنونة للجاذبية الكمية، بما في ذلك بدائل غريبة عن الثقوب السوداء القياسية لأنشتاين، مع عدم وجود أي أساس تجريبي، ونتيجة لذلك فقد تحولت المشكلة الأساسية من محاولة التوفيق بين النظريتين بالنسبة إلى كثير من علماء الفيزياء اليوم إلى هراء لا معنى له.

فالمطلوب الآن هو حقائق تجريبية صلبة لإبعاد كل هذا الهراء، وربما تكون هذه الحقائق مصدر إلهام لإيجاد حل لهذه المعضلة، وهذا هو بالضبط ما يمكن أن توفره القياسات المستقبلية لموجات الجاذبية.

ماريك أبرامويس

* أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة غوتنبرغ، السويد.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»