البديهة عند الإنسان أيها الكُتاب
مما قاله ديكارت في هذا الموضوع:"إن البداهة من بين كل الأمور هي أكبر الصفات توزيعاً بالتساوي بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه مزود بها بوفرة كبيرة... حتى أولئك الذين يصعب جداً إقناعهم بكل الأمور، لا يرغبون عادة في الحصول على قدر كبير من تلك الصفات أكثر مما بحوزتهم منها بالفعل"!
• ولنضرب مثلاً بمشهد من مسرحية "البرجوازي النبيل" لموليير، حيث إن السيد جوردان وهو رجل ثري، لكنه على قدر كبير من الجهل، وأراد أن يُثقف نفسه بالاستعانة بأحد الأساتذة الكبار... وفي المشهد الآتي نجد جوردان يتلقى درسه الأول من أستاذ الفلسفة... لكنه يقاطع المدرس ملتمساً منه طلباً خاصاً:- تفضل يا سيد جوردان.- أريد أن أفضي إليك بسر عظيم يقتضي الكتمان... إنني واقع في حب سيدة من الطبقة الراقية، وأريدك أن تساعدني على أن أكتب لها رسالة أبثها فيها لواعج حبي وغرامي.- حسناً.- أريدها رسالة في غاية الكياسة والذكاء والفطنة!- بكل تأكيد... وتريدها بالطبع شعراً؟- كلا... كلا... ليس شعراً!- إذاً لا شيء سوى النثر؟- كلا... لا أريدها مكتوبة لا بالشعر ولا بالنثر!- ولكن يا سيدي، لابد للرسالة أن تكون إما شعراً أو نثراً!- ماذا تعني بذلك؟ - أعني أن كل شيء لا يكون نثراً يا سيدي فهو شعر، وكل ما ليس بشعر هو نثر!- وعندما يتكلم المرء، فماذا يكون ذلك؟- ذلك نثر يا سيدي.- ماذا تقول؟ يعني إذا ناديت خادمي وقلت له: أحضر لي حذائي يا نيكول، أو ناولني شيئاً من الطعام، فهل هذا نثر؟- نعم يا سيدي... إنه نثر.- حسناً... حسناً... حسناً... إذاً لقد ظللت أتكلم نثراً طوال أربعين عاماً وأنا لا أدري شيئاً عن ذلك؟... إني شاكر لك جداً أيها الأستاذ إذ زودتني بهذه المعلومة!* * *• ماذا يعني هذا؟يعني أننا عندما نتكلم يجب أن نتجنب التعميمات البراقة التي لا نفهمها، وأولى بنا ألا نتكلم إلا إذا كنا نعرف ما نقول عالمين بما نتكلم عنه.فكما قال فولتير:"قبل أن أناقش أي شيء معك عليك أن تحدد ألفاظك".• ما أهدف إليه من هذه الخاطرة - في هذا المقال - أنني أطالع الكثير من الزوايا اليومية لكُتاب لديهم موهبة عظيمة في أن يكتبوا مقالات مكثفة... دون أن تقول أي شيء!كصاحبنا جوردان الذي اكتشف أنه يمارس النثر أربعين سنة دون أن يدري.فليت هؤلاء الذين يسودون المساحات البيضاء من الورق، أن يتركوها بيضاء أفضل من تسويدهم لها!