سعادة الحزن!
الحزن ليس دائماً ذلك الوحش الذي يأكل أغانينا المنسوجة من خيوط قوس قزح، وليس دائماً تلك الرمال المتحركة التي تلتهم أقدام أمانينا، أو هو شجرة الحرمل التي لا ظل ترميه أغصانها لمستجير بها من هجير، إنه أيضاً ليس في كل الأحوال تلك النافذة السوداء التي تسرق أنظارنا مخلّفة لمآقينا العمى وحفنة من الظلام، أو الباب الموصد في وجه كل النهارات المقبلة، أو نعش العمر القادم، ليس الحزن دائماً هو ذلك الضيف الثقيل الذي يملأ الوقت بالملل وذابلات المُنى وتافه الحديث.الحزن أحياناً كالدواء طعمه مرّ ولكن به الشفاء، نتجرّعه رغماً عنا لحاجتنا الماسة إليه، ونتحمّل رائحته الكريهه ابتغاء العافية من ورائه، نحتاج الحزن أحياناً لأنه يكون البوابة الوحيدة لعبورنا لفرحنا المنتظر، وجسرنا الوحيد للعبور للضفة الأخرى، والطريق الوحيد المؤدي للشمس ومواطن النجوم المضيئة في الليالي حالكة السواد، وتذكرة مرور لنا!
يصبح الحزن في أحيان كثيرة اليد التي تنقذنا من الغرق في أوجاعنا وربما أوهامنا، وهو قد لا يعيد لنا أعمارنا المسروقة، إلا أنه قد يحمي ما تبقى منها من أن تخطف أو أن تكون بضاعة تباع في سوق البضائع منتهية الصلاحية. إن الحزن أحياناً يساعدنا على تجميع الصور ووضع كل جزء منها في مكانه الصحيح، ويمسح الغبار عن ذاكرتنا التي نحاول أن نتناسها عمداً بتأثير الغي، أو بفعل الغيبوبة المشتهاة، ويجفف بالدمع ثياب قلوبنا من بلل الخيبة! الحزن هو ذلك الزقاق الضيق الخانق المظلم الذي يؤدي في نهايته إلى جوهرنا، فإذا ما عبرناه تمكنّا من الوصول إلى حقيقة ذواتنا، وسنحت لنا الفرصة لمعرفتنا عن قرب، إنه القادر على غسل ملامح أرواحنا من كل ألوان المكياج التي حاولت الظروف جهدها من خلالها إخفاء عيوبنا حتى لا يراها أحد ولا حتى نحن، الحزن يسقط كل تلك الألوان، ويكشف الستار عن تلك الخدعة لنصبح أمام نقصنا الموجع وجهاً لوجه، إنه يمنحنا الشفافية اللازمة لمعرفتنا أكثر، ويمنحنا الفرصة لمعرفة داخلنا حق المعرفة، الحزن لا يجاملنا ولا يجملنا زوراً، يرينا صورنا كما نحن لا كما نريد ونتمنى، إنه مرآتنا الأصدق.نلعن الحزن لأنه يضع اصبعه على مواطن ضعفنا، في الوقت الذي يجب أن نشكره لأنه دلّنا عليها حتى نتمكن من التفكير في كيفية إصلاح المعطوب فينا، وحتماً ذلك يتطلّب منا ألا ننهار عندما يشخّص لنا علّتنا ويضع بين أيدينا رسماً تخطيطياً لدائنا.الحزن هو الصديق الصدوق الذي لا يكذبنا القول حتى لو تسببت الحقيقة في جرحنا، إلا أنه في الوقت ذاته يمنحنا فرصة المكاشفة مع أنفسنا لمراجعة حساباتنا واكتشاف الخلل فينا.الحزن هو السيد الوحيد أحياناً الذي يضع في أيدينا مفتاح سعادتنا إذا ما تعاملنا مع سعادته باحترام بالغ وتقدير، لأنه فتح أعين قلوبنا علينا لنرانا!