كائنات ليلى السردية
القصة القصيرة عمل فني صعب. ذلك ما يتفق عليه جميع من حاول الكتابة الإبداعية في السرد. والأكثر صعوبة هو حاجة الكاتب لإصدار مجموعة من القصص في كتاب واحد، وهي حاجة لا مفر منها. ما يحدث غالباً أن تلك القصص لا تمتلك التوازن الفني أو الموضوعاتي وهي أعمال كتبت في فترات متباعدة ولا تتسم بحالة ذهنية أو نفسية متسقة دائماً، وليس من المطلوب أن يكون لها ذلك. واعتدنا في نقد القصص القصيرة أن نشير إلى الأجواء العامة لمجمل هذه القصص، وهو ما لن أفعله مع المجموعة الفاتنة التي كتبتها الكاتبة العمانية ليلى البلوشي تحت عنوان "كائناتي السردية". لن أفعل ذلك لأن الأجواء العامة لكل قصة تختلف فنياً ولغوياً وتقنياً عن الأخرى. ولا أعلم ما إذا كان ذلك مقصوداً أم لا.سأتجاهل قصصاً ضعيفة لم أجد لها سبباً في المجموعة سوى أن الكاتبة رأت، كما نفعل دائماً، ألا تقوم بتمزيق أوراقها الزائدة على الحاجة. فقصتا "حلومي" و"بورخيس = بورخيص" لا يندرجان ضمن القدرة الإبداعية الجميلة التي كتبت بها بقية عناصر المجموعة. ورغم ذلك فنحن أمام تقنية قصصية حداثية يتضح أن ليلى البلوشي قد أفادت كثيراً من قراءاتها للأعمال العالمية في السرد.
في أهم قصتين تمثلان خطاً إبداعياً مهماً في القص العربي ونموذجين من نماذج التجديد في طرق السرد عمدت من خلالهما الكاتبة إلى أنسنة الأشياء مستخدمة لغة خاصة جردت ذاتها ككاتبة من أي انفعال قد تؤثر به على سير القصة ونأت تماماً عن الحدث تاركة مجالاً سردياً ممكناً للأشياء للبوح الذاتي ومجالات عديدة للقارئ/ الناقد في تحليل هذا السرد وإسقاطه برؤى لن يتفق عليها الجميع بالتأكيد. القصتان هما: "مخطوطة" و"العباءة". في قصة "مخطوطة" تترك الكاتبة السرد منذ أول صرخة للمخطوطة نفسها. المخطوطة التي تتألم منذ أن ثنيت إحدى صفحاتها ذات يوم حتى إهمالها طوال حياتها، رغم عناء وجودها ومعاناة بقائها منذ ظهورها للحياة كجسد مهمل في أرفف المكتبة وحتى نهايتها بالانتحار بضوء الشمعة التي يحملها الرجل، الذي لا يستمع إلى أنينها طوال وجودها في مكتبته. لم تسقط ليلى قصتها على موضوع إنساني. ولي كما لكم أخذ القصة لمستوى أعلى من القراءة ولنا أيضا إمكانية أن نعمل نقيض ما فعلته الكاتبة فنستبدل الإنسان بالمخطوطة إن شئنا، وهو ما سيكون واضحاً في القصة الثانية "العباءة".قد لا يتفق معي قارئ المجموعة وقد لا توافقني الكاتبة نفسها بقولي إن أجمل قصص المجموعة وأكثرها واقعية هي هذه القصة. العباءة التي لا تحمل أي مغريات جذب ولا ألوان براقة، لا كريستال مبهرا، ولا زركشة كبقية العباءات التي يقبل عليها الزبائن مبهورين بألوانها وبريقها. عاديتها جعلت الجميع لا يكترث بوجودها وهي دائما في الخلف تتعرض في حوارتها مع الأخريات للإهانة. هي غير مرغوب بها لأنها لا تواكب عصرها الذي يحتاج لهذا الزيف في زميلاتها. وليست مفارقة أن ينتهي بها المطاف كما انتهى بالمخطوطة من قبل. وأيضا تترك ليلى البلوشي بحنكة قاصة متمرسة لكائناتها فرصة السرد ومتعته دون أن توجه رسالة واحدة معينة للقارئ الذي سيؤول العمل بطريقته.لن أدعي أن القارئ سيجد هذه الكائنات بذات الدرجة من الإتقان ولكن السمة الغالبة في العمل حققت متعة التجريب والخروج عن المألوف في القصة العربية التي عهدناها.