الأحزابُ السياسية والانقلاباتُ الحزبية والعسكرية التي حدثت باسمها منذ الخمسينيات، أو تحت رعايتها أو مباركةً منها، أدخلتْ في روع الجماهير المسيّسة بدورها، أن الشعرَ يجب أن يكونَ وسيلةً من وسائل الإعلام السياسي، وهي مهمةٌ تمنح حاملَها هويةَ الشاعر المسؤول، هويةَ الشاعر الذي لا يستثير حوله الشكوك. المرحلةُ الوطنية تقتضي ذلك. واستجابت الجماهيرُ لهذا استجابةً من رأى نفسَه فجأةً لا مشاركاً في تسييس الشعر فحسب، بل صاحبَ قرارٍ في تحديد الشعر والشاعر اعتماداً على مقدار استجابته. فانحدر الشعرُ مُرغماً من عليائه، أو برجه العاجي، إلى مستوى ذائقتها المتواضعة. وبذلك أصبح الشاعر يلاحقُ بالدرس والتأمل مزاجَ وأهواءَ هذه الجماهير، بدل أن يلاحق مزاجَ وأهواءَ قصيدته داخل نفسه، أو على الورق. هذه المهمة الأخيرة صارت طيَّ النسيان، وإذا ما توفرت فهي تقتصرُ على شعراء (اليمين!) المعرّضين للتهمة. على شاعر المرحلة أن يُشبعَ الجماهير رضا، وعلى جماهير المرحلة أن تُشبعَ الشاعرَ رضا بالمثل. صارا يُغذيان بعضهما بعضا، مستعينيْن معاً بالتربة العربية المُسمّدة بوحل الإيهام العقائدي، وعبادة الفكرة المجردة، والحاجة المُلحة لتوفير الأعداء، ومن ثم توفير الحماسة المتعطشة للبغضاء والكراهية. وعلى ضوء كل هذه المكاسب، وضعت المؤسسةُ الثوريةُ الرسمية مسرحَ "المهرجان" المهيب، ومسارحَ وسائل الإعلام الثقافي العديدة، البالغة الإغواء والسحر. تعبر الموهبة الشعرية تحت أضوائها، تُختبر، ويصدر القرارُ بشأنها. وتَواصلَ هذا الديدن عبر العقود، منذ الخمسينيات حتى اليوم، وبالرغم من الانهيار الوجودي العربي الشامل، وتلاشي قوة وفاعلية الأحزاب السياسية، و"الجماهير" االمسيسة، بفعل الانكسار واليأس، استبدلتْ وسائلُ الإعلام الثقافي مصطلحَ "جمهورَ الشعر" بـ"الجماهير" الذي أصبح مصطلحاً ثقيل الوطأة على الجميع، وغير مرغوب به. وكواليسُ الأحزاب السياسية القديمة المتلاشية تحولت إلى كواليس وسائل إعلامية ثقافية رسمية، جديدة وناشطة. وأبطالُها الفاعلون هم، على الأغلب، الأدباء والشعراء. ويكفيك أن تُحصي كل الصفحات والمجلات الثقافية لتجد أن أغلب المُشرفين عليها شعراء، أو أدباء، لا صحافيون محترفون. أو لعلهم صحافيون، تنكروا لهذه الهوية، في ثقافة لا تحترم الصحافة، وأصبحوا شعراء.
الشاعرُ يخرج اليوم إلى الأضواء عبر وسائل التسلية الثقافية: مهرجان، ومؤتمر، ومشاريع ثقافية مدعومة بكرم، وصحافة، وإذاعة وتلفزيون. ولم يعد هذا الشاعر بحاجة إلى "الجماهير"، ولا حتى إلى "جمهور الشعر". لمعرفته العميقة بعدم وجودهما، وبعدم فاعليتهما حتى لو وجدتْ منهم بقية.شأن الشاعر الحقيقي، هناك قارئ حقيقي. هناك شعراء قلة في عصر صحافة التسلية (التعبير للألماني هيرمن هيسة)، وقراء قلة. شعر وشعراء المهرجان بالنسبة لجمهور المهرجان ما هم إلا وسائل تسلية اجتماعية. إنهم يوفرون لأنفسهم فرصة قضاء الوقت، بلقاء الأصدقاء، أو الإصغاء مؤقتاً لهذا الكلام الفائض عن الحاجة. وقد يكون مصدر ضحك وسخرية. شاعر هذا الجمهور يسعى لأن يكون نجماً، والشاعر النجم هو من كسب جمهورَ المهرجان هذا، وجمهورَ وسائل الإعلام الثقافي الأوسع.تراثُ "إثارة الحماس السياسي الجماهيري" الخمسيني والستيني لن تُطفأ فاعليتُه، بالرغم من تغير الظرف التاريخي. يظل هذا التراث، بالرغم من موته، يدعم الشاعر النجم، معزَّزاً بمؤسسات وسائل الإعلام الثقافية. لأن هذه المؤسسات تعرفُ مقدار انتفاعها، ولو في الظاهر، من تلك الشعارات التي كانت مثيرة للحماس في السنوات المنسيّة. هذا يكفي بالنسبة لها، ما دام هذا الشعر، وهذا الشاعر، يرفعان بدخان أنفاسهما بالونةَ الوهمِ والإيهام عالياً. قد لا أبالغ إذا ما قلتُ إن شعرَنا ينفرد بنزعة الحماسة باتجاه الكراهية، دون شعر العالم أجمع. وإن هذه النزعة، التي أصبحت "طبيعة شعرية"، إن صح التعبير، تسرّبت إلى المواقف التي تُعتبر فنية بالدرجة الأولى. ويمكن متابعة هذا في كتابات معظم الطليعيين الذين تبنّوا حداثة، أو ما بعد حداثة، عجز عن اللحاق بها آخرون، أو استنكروها. هؤلاء الآخرون لم يُصبحوا مختلفين، أو مخالفين، بل متخلّفين. والمتخلّف عدو يستثير الكراهية بالضرورة، شأن اليميني لدى اليساري.
توابل
هل من شعر للكراهية؟
01-05-2016