سماء قريبة من بيتنا
«فاجأتني قبة السماء وقد انجلت لعيني شيئاً فشيئاً... صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كل شيء محتوماً، الألم، والموت، والشفاء. السماء هنا قريبة، قريبة جداً، ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال». بهذه العبارة تختم شهلا العجيلي روايتها «سماء قريبة من بيتنا»، وكأن تلك الكلمات هي جِماع للرؤى والكوابيس والفوضى التي عاشها أبطال الرواية، في أمكنة تمور من تحت أقدامهم مثخنة بالحروب والمتغيرات. فأمام عجز الإنسان وضعفه لا يبدو التسليم بواقع الحال يأساً أو جُبناً، وإنما هو لون من التسليم الروحي والإيمان بأن « كل شيء يبدو محتوماً « كما تقول الكاتبة، «الألم، والموت، والشفاء». وإذ تبلغ الأوجاع والمآسي ذروتها، ربما تبدأ السماء في لحظة ما بالانجلاء، وتصبح قريبة وقريبة جداً.
يشعر القارئ لرواية «سماء قريبة من بيتنا» وكأنها بناء مفتت أو ممزق، هكذا تبدو للوهلة الأولى من فرط تعدد الحكايات المتناسلة، ومن كثرة الشخوص التي لا ترتبط ببعضها إلا بخيوط عنكبوت. تبدأ الرواية بإلقاء الضوء على أسرة «شهيرة الحفار» الحلبية التي تضطر لمغادرة حلب إلى دمشق عام 1947م لأسباب سياسية تخص رب الأسرة. ثم بعد ردح من القراءة، تتبدى للقارئ أسرة جمان بدران بطلة الرواية المتحدرة من مدينة الرقة السورية، وبعدها يأتي حشد من التفاصيل الخاصة بأفراد هذه الأسرة من أب عصامي مثقف إلى أخوات لكل منهن حكايتها الخاصة. ثم يتبدى عمود الرواية وخيطها الأكثر إحكاماً وهو التقاء جمان بناصر العامري ابن شهيرة الحفار مصادفة في رحلة جوية إلى عمّان المدينة التي أصبحت ملتقى الشتات في بقعة ملتهبة بالصراعات والقلاقل. وهكذا تتأسس الرواية على مزق الحكايات المغموسة بمزق الأمكنة: حلب، الرقة، أميركا، دبي، عمّان، فلسطين، العراق، عُمان، فيتنام، أفغانستان. أمكنة شكّلت شخصيات الرواية وعجنتهم وأهدت إليهم المكاسب والخسائر. ورغم دوران أجواء الرواية حول فوضى الدمار والحروب وتمزقات الشمل، فإن الكاتبة لم تأخذنا إلى مشاهد القسوة والعنف أو تتوسل بها شفقة القارئ أو استثارته، لسبب بسيط وهو أننا جميعاً نعرفها جيداً، فاكتفت بالتلميح والإيماء دون الدخول في مشاهد درامية أو ميلودرامية رغم أن المكان والزمان يستدعيهما بشدة. لم يكن التقاء ناصر بجمان التقاء حب بقدر ما كان التقاءً لرتق ثقوب الشتات والغربة والمرض، ليس من منظور شخصهما المنفرد وإنما من منظور وطن وأمة تمرّ بأشدّ محنها ضراوة، فيأتي القُرب والوصل ليرتق بعض تلك الثقوب والندوب. إن إصابة جمان بمرض السرطان يبدو أمراً متوقعاً في سياق الرواية، وهي السورية ابنة مدينة الرقة التي شهدت وماتزال تشهد أفعال أشدّ الجماعات المتصارعة إرهاباً وعسفاً. ولم يكن انسلالها إلى عمّان إبان هذه الفوضى إلا لوناً من التحايل على معيشة ضنكٍ لم توفر أسرتها من التضييق والابتلاء. أما الوقوف طويلاً أمام مراحل مرضها ومعاناتها وتأرجحها بين اليأس والأمل، ثم مساندة ناصر لها ودعمه ورعايته، فتبدو كلها أمور تتناصّ مع الواقع السوري الأشبه في صدمته وأعراضه وأهواله بمرض السرطان. والكاتبة إذ تجعل جمان تتعافى شيئاً فشيئاً من سرطانها بمعونة المحبين والأصدقاء مثل ناصر وهانية والدكتور يعقوب، فإنها بلا شك تطمح نحو الأمل في الشفاء المتدرج لوطنها وناسها. ولهذا تجعل بطلتها جمان في نهاية الرواية ترنو نحو السكينة ونحو سماء تراها قريبة جداً من بيتهم. الحكايات تلد الحكايات بين يدي شهلا العجيلي، وإن بدت بعضها لا صلة مباشرة لها ببنية الرواية، كحكاية سلمى أخت جمان وقصة حبها (للقرصان/ البحار) في عُمان، كذلك حكاية أم الدكتور يعقوب ووقوعها في حب عازف الكمان الألماني، وغيرها من التفريعات والوقائع والشخوص التي أزحمت العمل الروائي دون مبرر فني. وأعتقد بناءً على ذلك أن رواية «سماء قريبة من بيتنا» تحتاج إلى قارئ متيقظ لئلا تتوه من ذاكرته سياقات الرواية ودهاليزها.