تضخم "الأنا"، لدى الشاعر خاصة، ضربٌ من تعويض عن فقدان الثقة الخفي بالشعر الذي ينتسب إليه، وبالتالي فقدان الثقة بالنفس؛ وهذا يصح على السياسة. فزعيمُ بلد كالقذافي أو صدام حسين، يبدو أضخمَ حجماً من زعماء أميركا وأوربا والصين واليابان مجتمعين. والسببُ كامنٌ في الشعور الخفيِّ لدى القذافي نفسه، وصدام حسين نفسه، بانعدام الثقة بشخصه، وبشبكةِ الأنظمة التي ينتسب إليها. إن تضخم "الأنا"، الضروري والملح، يُبرئني أولاً من ثقافة محيطة ضحلة، ويمنحني موقعاً استثنائياً فيها ثانياً. هذا ما يتخفى وراء لغة بيان الستينيين العرب. إن لغتهم تُشعرك، حين يتحدثون عن حداثتهم، بأنها تصدرُ عن لغةٍ لم تخطر على لسان مثقفِ أدبٍ غربي، وعن كائنات أكبر من حجم الحياة بكثير، وحضارةٍ أرحب وأعمق من كل الحضارات الزمنية التي نعرفها: "كتابةٌ تُعلن شرعةَ الهدم"، "كتابة ترفض النص المكتمل"، أن نغيرَ مسار الشعر معناه أن نُبنْين النص وفي قوانين تخرج على ما نسج النصُّ المعاصر من سقوط وانتظار، أن نؤلف بين التأسيس والمواجهة. "لا بداية ولا نهاية الكتابة نفيٌ لكل سلطة، وبهذا المعنى لا يبدأ النص لينتهي، ولكنه ينتهي ليبدأ". "وهذا العمل الخلاق نمو محتمل للوحدة- الوحدات الأساسية التي تقود النص نحو التجلي". "آن لنا أن نخرب الذاكرة. نلجأ إلى اللغة المأخوذة بترف الهذيان". "في الهدم اكتشاف". "الكتابة نقيض الكلام". "الكتابة، إذن، تدمير لعناصر الواقع بعناصر الحلم". "نحارب النظام بالفوضى، المنطق بالغموض، البناء بالتخريب". "لمن نكتب؟ سؤال داعر، خبيث، جبان."... إلخ.
من أين تُقبل هذه الدعاوى واللغة الخارقتان؟ مع أن كل واحد منهم يعرف عن يقين لا شائبة شك فيه ما حدث ويحدث في ثقافتهن وما يحدث في ثقافة الغرب الأدبية، التي لا تنفصل عن ثقافته الفلسفية، والفنية، والموسيقية، وتفجره العلمي، والمعرفي الذي يفوق أي تصور. يعرف ما طبيعة "حداثة" ولت وِتمان، فروست، كفافي، طاغور، أليوت، ييتس، إزرا باوند، ﭬاليري، ريلكة، مونتالي، ريتسوس.. دعك عن الروائيين والمسرحيين والموسيقيين، والنقاد الذين قرأناهم، رغم الترجمات الرديئة في معظمها إلى عربيتنا، المولعين بانتهاكها رغم فقرها، ويعرف أن مجرد المقارنة بينه وبينهم كفيلة بإرباك دورته الدموية. لم يكن رأي أدونيس عمادَ بيانات الستينيين في تطلّعها الإيهامي وحده، بل اللغة الأدونيسية أيضاً. تلك التي تخرج، شأن رأيه، من "بكورية" حديثة مُبرأة من "الغرب" المتعالي، ومن التخلف العربي في آن! يذهب مع التطلّع الإيهامي إلى هذا المدى: "إبداعياً، أعني على مستوى الحضارة بمعناها الأكثر عمقاً وإنسانية، ليس في الغرب شيء لم يأخذه من الشرق. الدين، الفلسفة، الشعر (الفن، بعامة) شرقية كلها. ويمكنكم أن تستأنسوا بأسماء المبدعين في هذه الحقول، بدءاً من دانتي حتى اليوم. فخصوصية الغرب هي التقنية، لا الإبداع، لذلك يمكن القول إن الغرب، حضارياً، هو ابن للشرق. لكنه، تقنياً، "لقيط": انحراف، استغلال، هيمنة، استعمار، امبريالية. انه، في دلالة أخرى، تمرد على الأب. وهو، الآن، لم يعد يكتفي بمجرد التمرد، إنما يريد أن يقتل الأب".(ص36) ومع الثانية، في اللغة الأدونيسية، يذهب إلى مدى أبعد: "لا وسيط في الإبداع، بين العدم والاسم. أن تولّد وأن تسمي فعلٌ واحد. الابداع كلمة/ فعل. فعل/ كلمة. إنه سديم يتمرأى، يتصور ذاته. انه تأسيس على الهاوية- أي انخراط بِدئي في قوى الكون الحية."(ص36) نرى في الأولى: المنظور العربي التقليدي ذاته، الذي يبعث الضوء في ماضٍ لا يمس الحاضر بطرف سبابة. نعم، أخذ الغرب عن الشرق المتحضر في الزمن الغابر الكثير، ولكن ما دخلنا نحن الذين نراوح في وحل بؤسنا اليوم بذلك، ونحن أبعد أمم الأرض عن ماضينا التنويري، وعن تقدم الشرق غير العربي عامة؟ وفي الثانية: يُدخلنا في أحجيات لغة مُعرضة للتأويل السائب. خاصة في هذا "الانخراط البدئي"، الذي لا يعتمد جذراً أرضياً بل "قوى الكون الحية"!
توابل - ثقافات
بيانات الستينيين العرب 2
29-05-2016