تكتسب رواية "الحبل" للعراقي كنعان مكية الصادرة عن دار بانثيون 2016 أهمية استثنائية كونها في وجه من الوجوه تفكر في المآلات التي انتهى إليها العراق بعد سقوط طاغية دموي وفي وجه آخر تقديمها عينة، بائسة ورثّة، لإخفاق عربي مديد في تأسيس وطن جامع لأبنائه على اختلاف البيئات التي يصدرون عنها. تستعير الرواية عنوانها من الحبل الذي شنق به صدام حسين في 30 ديسمبر 2006 في طقس طائفي همجي أفسد من بعده أي عدالة انتقالية من طور سياسي لآخر، فالشخصية الرئيسة في الرواية، وبدلالة باهرة على فضاء اجتماعي غدا منتفخا طائفيا، تداعب مخيلته فكرة الاحتفاظ بالحبل الذي سيجلب لمالكه ثروة هائلة حين يمزقه إلى فتلات صغيرة ويبيعها إلى أبناء طائفته بسعر عشرة آلاف دولار للفتلة الواحدة.
هذه الروح البدائية الغريزية للثأر هي عينها التي تصورها الرواية في تصفية الخلافات داخل الطائفة نفسها، عبر استرجاع حدث مقتل السيد مجيد الخوئي يوم 10 أبريل 2003، على يد أحد رموز هذه الطائفة بطريقة همجية ومتوحشة، والذي شهد تواطؤاً من كل الأطراف السياسية الشيعية على هذه الجريمة وصمتا وتسترا على القاتل. هذان الحدثان هما من فتحا بوابات الجحيم لعراق ما بعد 2003، وجعلاه مسرحا لأسوأ مراحل انحطاط العلاقات الوطنية، واحتقار القانون والدولة والاحتكام إلى العنف. وتكفلت صراعات سليلي أسر دينية وأمراء حرب صغار ومرجعيات دينية بإعادته إلى القرون الوسطى، حيث لا صوت يعلو على صوت الخرافات والأساطير والتشبث التأثيمي بالتاريخ. ولكن الرواية في نواتها الصلبة تحيلنا بشكل مباشر إلى معضلة الافتقار المديد إلى الدولة الذي وسم تاريخ مجتمعاتنا، وعجز هذه المجتمعات عن تطوير مجتمع سياسي يتقدم فيه الأفراد بصفتهم متساوين أمام القانون، في معزل عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية. وهو عجز رافقنا حتى العصر الحديث حين نشأت الدولة، على سبيل الإحاطة، كمفهوم وتنظيم حديثين في المجتمعات الأوروبية. وثمة طاقة معادية للدولة ما زالت مستقرة في موروثاتنا الثقافية، حيث لا تعني كلمة "الدولة" في فلكلورنا الثقافي سوى السطوة والهيمنة، أما تاريخنا الثقافي فيجعل جذرها اللغوي صنوا للتغير والتقلب وعدم الثبات. ومرثية أبي البقاء الرندي الأندلسية: "هي الأمور كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساءته أزمان". تغني عن مزيد من الإيضاح. وهذا الازدراء للدولة نجده الأكثر شيوعا في تراثنا الفكري، حيث لم تكن الدولة تعني سوى حكم أسر بعينها، على النحو الذي يشير فيه أبو علم الاجتماع ابن خلدون إلى حكم عصبية من العصبيات، كدولة بني أمية أو الإخشيدية أو أسرة صغيرة داخل أخرى أكبر كدولة بني بويه داخل دولة بني العباس. ولئن كان هناك اهتمام بالدولة في مراحل متناثرة من تاريخنا، فإنه في واقع الأمر كان حرصا على مساواتها بالسلطة والقدرة على امتلاك القوة والقمع، وليس بأي بعد آخر من أبعادها، أو بمعناها القانوني الدستوري. وموت الدولة في العراق المعاصر يتم التعويض عنه بالتضخيم المذهبي الأيديولوجي، حيث تمتلك المرجعية الدينية القرار الدستوري ورجالات الأسر الدينية وأمراء الحرب الصغار يتحكمون بالشأن اليومي، ولكن هذا الوعي المذهبي يشتمل على طاقة من العداء للدولة والشعور بالبدالة عنها. فمن يقودوا العراق اليوم يعيشوا زمنا أخلاقيا وأهليا عديم الصلة بأفق الدولة والسياسة والمصالح، وهذا نفسه هو الأفق الأيديولوجي للطاغية صدام حسين، وإن تغيرت سيميائيات الصراع، فالأنفال والقادسية وذي قار حل محلها لبيك يا زينب، وكتائب أبا الفضل العباس، ولواء الفاطميين، في الوقت الذي يضمحل فيه العراق كيانا ودولة.
مقالات
العراق البائس
29-05-2016