زمن الشعبوية والشعبويين
من الضروري التمييز بين: الشعبي والشعبوي، فهما مفهومان مختلفان سواء في نمط التفكير أو في أسلوب الخطاب والتعبير، الخطاب الشعبي: يتبنى هموم الشعوب ومطالبها ويعيش معاناتها اليومية، ويقودها إلى الارتقاء بسلوكها، وتنويرها، عبر الخطاب العقلاني المتبصر للأوضاع العامة للمجتمع، مراعيا حدود الإمكانات الفعلية لتحقيق الوعود والمطالب، وعدم تجاوز المؤسسات القائمة، واحترام العلاقات والمعاهدات الدولية، والخطاب الشعبي خطاب تنويري عقلاني، يرشد السلوك العام للجماهير وينظمه ويوجهه، ويستثمر الطاقات المجتمعية إيجابيا. أما الخطاب الشعبوي فهو خطاب وصولي، انتهازي، فوضوي، لاعقلاني، مضلل في شعاراته وطروحاته، يستميل الجماهير عاطفيا، عبر إثارة غرائزها الأولية، والتلاعب بمشاعرها: الوطنية والقومية والدينية والطائفية، وصولا إلى أهداف وغايات نفعية ضيقة، سياسية أو اقتصادية أو نفوذ اجتماعي أو شهرة إعلامية... إلخ. الشعبوي لا يقود بل يقاد، ويركب الموجة الجماهيرية ويتماهى معها ويتملقها، صوابا أو خطأ ولو على حساب مصالحها الحقيقية، الهدف الأسمى للشعبوي الفوز والنجاح والانتصار ولو داس كل القيم والأعراف، يتبنى الشعبوي خطابا معاديا لمؤسسات الدولة، وأبنيتها السياسية الوسيطة ونخبها السياسية والثقافية، يتجاوز الأحزاب السياسية، وينشر اللاعقلنة والتعصب والكراهية والتفرقة بين مكونات المجتمع الواحد. الخطاب الشعبوي هو الذي مهد الطريق لكل زعيم شعبوي للانفراد بالسلطة المطلقة والاستبداد وقمع كل رأي معارض، من أمثال هتلر وستالين وصدام والقذافي وغيرهم، ومن السمات الأساسية في الخطاب الشعبوي الإيمان بالفكر التآمري وترسيخه في نفوس الجماهير بهدف شحنها وتعبئتها ضد أعداء متوهمين داخليا وخارجيا، وزرع الكراهية تجاه الأجانب والقوميات العرقية الأخرى وأتباع المعتقدات الدينية المختلفة، بل لا نتجاوز الحقيقة إذا اعتبرنا الخطاب الشعبوي خطابا مضادا للجوهر التمثيلي الذي تقوم عليه النظم الديمقراطية المعاصرة، بادعاء أنه يمثل الإرادة الشعبية الحقيقية، من غير وسيط، وهو ادعاء مضلل. على مر التاريخ السياسي كانت "الشعبوية" أداة للحكم الاستبدادي لكل فاشل أو مغامر من الحكام الدكتاتوريين، في إلغاء آليات العمل الديمقراطي وتجاوز الأحزاب السياسية من أجل الحصول على التفويض الشعبي المطلق للقائد الملهم! لذلك فإن تاريخ الشعبوية تاريخ من النتائج الكارثية على المجتمعات والأوطان.
وللشعبوية تاريخ ممتد إلى اليونان القديمة التي عرفت صعود ديماغوجيين إبان انتكاسة ديمقراطية أثينا، وشهدت الإمبراطورية الرومانية صعود أباطرة شعبويين يجيدون فنون الخطابة الحماسية، وفي تراثنا أطلق المؤرخون على العامة أوصاف: الرعاع، السوقة، الدهماء، العوام، في مقابل النخب من أهل الرياسة والعلم والحلّ والعقد، حتى عصر النهضة، حيث تحول "العامة" من عنصر مهمش متفرج إلى فاعل مشارك. ثم ظهرت الشعبوية في الثلاثينيات في أميركا اللاتينية، وامتدت إلى العالم العربي عبر السياسات الشعبوية الجاذبة للجماهير وبخاصة في عهد الزعيم عبدالناصر، ونجحت النظم الغربية، ومنذ نهاية الحرب الثانية إلى التسعينيات، في تحجيم الشعبويين وتهميشهم، لكن تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وتدفق هجرة اللاجئين وتداعياتها الاجتماعية، واتساع الفجوة بين الطبقات الثرية المهيمنة والطبقات الأخرى، أتاحت المجال الملائم لصعود مد الموجة الشعبوية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة، واليوم نحن في زمن طغيان الشعبوية والشعبويين الذين بدؤوا يصلون إلى السلطة.الخطيب الشعبوي قد يكون سياسيا يسعى إلى السلطة كترامب، المرشح الرئاسي الذي يستثمر نقاط الضعف في البنية السياسية لحزبه، ويستنهض غرائز قطاع واسع من المجتمع الأميركي، وقد يكون تيارا أو حزبا عنصريا نازيا أو فاشيا يستغل التخويف من الإسلام وصولا للسلطة، كما في أوروبا، وقد يكون خطيبا دينيا محرضا على كراهية الآخر، وقد يكون إعلاميا يلهث وراء المتطرف أو الإرهابي أو الناشط الفوضوي، ليجعل منه بطلا أو ضحية أو شهيدا، متجاوزا ضوابط المهنة وأخلاقياتها، طمعا في السبق الإعلامي وكسب المشاهد العاطفي، وقد يكون ناشطا "تويتريا" أخذته الحمية الوطنية، فغرد وهيج الرأي العام وشحنه في قضية، قبل أن تستبين حقائقها.ختاما: ما الذي يجمع الشعبويين على اختلافهم؟ تهييج مشاعر الجماهير وإثارة حماستهم وإلهاب غرائزهم وشحنهم ضد أو مع: نظام أو شخص أو فكر أو قضية، في تجاوز للعقلانية والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والارتقاء بالوعي.* كاتب قطري