الحقيقة أننا "عليمية" عندما نأتي لممارسة حرية الرأي، مضحك تشدقنا بها، واتهام بعضنا لبعض بخيانتها، ورفضنا لتحمل مسؤولياتها، وأول المشاكل المضحكة تتبدى في تعريفنا لتطبيق مبدأ حرية الرأي، فهذا المبدأ ينطبق فقط، في عرفنا، على الآراء التي نتفق معها، والذي هو تطبيق يتضاد وبصورة مباشرة مع الفكرة الرئيسية لمبدأ الحرية. نحن نؤمن بحرية الرأي، ولكن دون "المساس" بالعقيدة، ودون انتقادات القيادة، نحن نحترم حرية الرأي ولكن دون تناول المواضيع المهمة الحساسة، وهكذا مع كل المحظورات واللاءات و"اللاداعيات" التي يسردها لك الآخرون، تجد أن حرية رأيك تبخرت فجأة وكأنها شربة ماء صغيرة تحت شمس أغسطس الكويتية العظيمة.دائماً ما تتحفني هذه الجمل في عظمة تناقضها، "قلنا حرية، بس عاد لا تتكلمون في الدين، ولا في السياسة، طيب انتقدوا الدين لكن دون أن تحملوه أخطاء، انتقدوا الساسة ولكن دون نعتهم بأوصاف، تكلموا عن التراث ولكن دون سرد أسماء" وهكذا سريعاً، تجد نفسك وأنت تحاول أن تستمتع بحرية رأيك محشوراً في محظوراتها، تضغطك الخطوط والمحاذير حتى تصبح حرية الرأي نقطة بيضاء بعيدة منمنمة القطر، بالكاد يدخل في حيزها أي موضوع يستحق، فإذا بك تأتي بممحاتك، وتمسح نقطتك مكبلا حريتك بيديك، مودعاً إياها ذاك "الجهاز"، تذكرونه؟ من هنا تدخل حرية رأي، من هناك تخرج أصابع كفتة، "ودي قمة الإعجار العلمي".
وإذا ما انتهينا من التعريف نأتي للاستحقاق، فيبدو لنا أن كلا منا مستحق لهذه الحرية، ولكن فقط هو دون غيره. دوماً ما يظهر لنا أن ما نقوله هو المعقول المقبول الذي يدخل في حيز الحرية وما يقوله الآخرون هو الخارج الذي يجب منعه ومعاقبة قائله، ومن هنا ننتقل للمشكلة التالية، ألا وهي التعبير عن الحرية، فبعضنا يعتقد أنك أكثر تحرراً عندما تشتم الناس وتوغل في السخرية منهم وإيجاعهم، وكأن الحرية لا تتم إلا إذا صاحبتها القسوة وأحياناً بذاءة التعابير، وفي حين أن هذه وتلك تدخل في حرية الرأي بكل تأكيد، إلا أنهما ليستا صفتين متلازمتين مع الرأي الصريح، وعليه، لا يمكن اتهام الإنسان هين التعابير بأنه جبان غير صريح والإنسان سليط اللسان بأنه حامي حماة الحرية، فالبذاءة، وإن كانت أحد أساليب التعابير، فهي ليست شرطاً من شروط حرية الرأي.وأخيراً نأتي لرد الفعل تجاه الحرية، وهذا الجانب "العليمي" الأكثر كوميدية بالنسبة إلي شخصياً، فنجد أن معظم حماة الحرية يمتعضون ليس من الرأي الآخر فقط ولكن من أي نقد لآرائهم كذلك مصنفين أي محاولة مناقشة قوية لطرحهم تعدياً على حرياتهم. يعتقد هؤلاء أن حرية الرأي تعني أن يقولوا هم آراءهم فيوافقهم عليها الآخرون، لا يجادلونهم فيها، وكأن أي محاولة للإشارة لعدم صحة آرائهم أو المجادلة حولها هي محاولة لقمعها، والفرق كبير وواضح إلا لنا نحن، عليمية حرية الرأي. على وسائل التواصل الاجتماعي توجد أدوات من "الأنفولو" أي (إلغاء المتابعة) أو "البلوك" أي (منع متابعة الآخرين لك) وهي وسائل وضعتها هذه الأنظمة لحماية حق المستخدم من حيث اختياره لمن يتابع هو ولمن يتابعه، لكن عندنا القصة مختلفة، حيث يُعتقد أن هذه أدوات نكاية وتنفيس غضب، وأن استخدامها يعتبر تعدياً على الحرية. لقد انتشرت وسائل التواصل لتوسع دوائر الحريات وفي ذات الوقت هي وفرت تطبيقات تحمي المستخدمين قدر المستطاع، فمالنا نتشدق بالحرية أكثر حتى من المؤسسين لها والمقدسين الحقيقيين لمبادئها؟ لا يأتي ذلك إلا "محدث الحرية"، هذا الذي بدأ للتو يخطو خطواته في عالمها، فاعتقد أنه أصبح "يوسين بولت" مضمارها. نحن عليمية ولكننا نحب أن نتصدر، نفخر نحن بانتفاخ أوداجنا، التي غالباً ما تكون مليئة بغاز الهيليوم، يورم صدورنا ولكن ما إن نتحدث حتى تخرج أصواتنا رفيعة مضحكة غاية في الهزلية. إن ممارسة الحرية تحتاج إلى عقل ذي لياقة، يتدرب على استخدامها صباح مساء، فالعقل غير الرياضي لن يتمكن من الاستمرار وسيسقط سريعاً تحت وطأة آلام رفع أثقال حرية الرأي، وعدوها السريع والقفز فوق حواجز مهانتها وآلامها. العقل العربي لا يزال في بداية تمرينه، فلا مكان له بعد في التنافس الأولمبي للحريات، لذلك، علينا أن نخفف من غلوائنا وتشدقنا، ونأخذ حقيبة أفكارنا ونروح "الجيم".
مقالات
هيليوم
30-05-2016