للمدن سِيَر بديعة كما للبشر. بل لعل سير المدن تفوق سير البشر في العراقة والتنوّع وامتداد الزمن وخصوبة العمر. وتظل المدن مرايا عاكسة لمؤسسيها وبُناتها، تحمل الشيء الكثير من ملامحهم وفنهم وحاجاتهم الأساسية وطباعهم ومعتقداتهم. فتأتي المدن حينها مزيجاً من الحجر والبشر منداحَين بطبيعة الأرض ونكهة البيئة. تذكرت وأنا أتصفح كتيباً صغيراً عن مدينة الكويت تحت عنوان "المعمار الإنساني أولاً" من إصدارات المجلس الوطني، أقول تذكرتُ كتاباً آخر لعبدالرحمن منيف بعنوان "سيرة مدينة" عن عمّان التي شكّلت طفولته وحياته بشكل عام. وتمنيت لو أمكن لنا أن نجد مؤلَّفاً في ثراء وحيوية كتاب منيف عن مدينة الكويت.
"المعمار الإنساني أولاً / مدينة الكويت" عبارة عن مقالين للدكتور سابا شبر، المهندس الفلسطيني الذي قدم إلى الكويت وعمل مستشاراً ما بين عامي 1960م و1968م. ولذلك فالمقالان اللذان كتبهما عبارة عن رؤية استشرافية لمدينة الكويت منتصف الستينيات، وما كانت عليه من تحوّل عمراني اعتبره الكاتب تحولاً جريئاً ومثيراً آنذاك. وكان قد تحدث في البدء عن المدينة القديمة واستجابتها لحاجات سكانها وعاداتهم الاجتماعية والشروط المناخية وما تيسر من مواد البناء. وعليه فأعتقد بأن ما كتبه سابا شبر هو من قبيل الوصف الظاهري للمدينة لأنه معماري، وهو وصف قد يكون مبهراً منتصف الستينيات ولكنه الآن قد يبدو للقارئ باهتاً كصورة قديمة بالأسود والأبيض. إذ يكفي أن نتلفت حوالينا ونرى كيف قفزت مدن المنطقة قفزات هائلة في فن العمران والتخطيط، بينما بقيت مدينة الكويت كسلحفاة متلكئة تنام على الرمال بلا أحلام، بعد أن تأجلت مشاريعها التنموية وعلاها الغبار والتسويف. حين تذكّرت كتاب عبدالرحمن منيف عن مدينته "عمّان"، تذكرت أيضاً جمال النسق الإنساني الذي كُتب فيه. فالمؤلف يأخذك في رحلة عذبة إلى روح المدينة وناسها، إلى بيته وأمه وجدته، إلى رفاق الطفولة والمدرسة، إلى الأمكنة العابقة بالحنين والتذكر، إلى البيوت والشوارع ورائحة الطعام ونباتات الأرض، إلى العلاقات الإنسانية الحميمة بين الأهل والجيرة ومجالس النساء والرجال وساحات اللعب ومواسم المطر والجفاف. وهو في هذه الرحلة الإنسانية لا ينسى أن يشير إلى مواقع الأمكنة وأسماء الأحياء والأزقة، وإلى الأعلام من الرجال ومن المباني والمؤسسات ودورها في تشكيل تاريخ المدينة. وأيضاً كان للأحداث والوقائع نصيب من سيرة المدينة صانعاً بذلك لوناً من التاريخ الاجتماعي المحكي. ولأن عبدالرحمن منيف روائي، فقد صاغ هذه السيرة على نمط رواية حافلة بالشخصيات، ويأتي على رأسها شخصية جدته العراقية الأصل التي استطاعت بخفة روحها وذكائها الفطري أن تتناغم مع روح مدينة عمّان وتتأقلم مع بيئتها وناسها. حين العودة للحديث عن مدينة الكويت يحضرنا – للأسف - قلة الاكتراث بتسجيل السير الذاتية لرجالاتها ورموزها سواء بأقلام أصحابها أو فرق الباحثين والدارسين، فما بالك بتسطير سيرة المدينة وعوامل نشوئها وتطورها وملامحها الفارقة. وقد يطول بنا الزمن قبل أن نعثر على مثل موهبة عبدالرحمن منيف، ممن يستطيع أن يمزج ما بين ما هو إنساني محض وما هو تقريري وصفي، ليخرج لنا سجلاً متكاملاً عن شخصية المدينة وكيانها الاعتباري. يمكن للمتتبع أن يجد أمثلة كثيرة من الكتابة عن المدن وعلاقة الإنسان بها في الفن الروائي على وجه الخصوص، حيث تظهر المدن بوجوهها الصريحة ورثاثاتها وبهارجها وأصالتها، بتقواها ومجونها، بجمالياتها وندوبها وغناها وفقرها. ولعله يحضرنا في هذا المقام روايات مثل "الخبز الحافي" عن طنجة، و"ثلاثية" نجيب محفوظ عن القاهرة، ورواية "الفتى المتيّم والمعلّم" لأليف شافاق عن إسطنبول، ورواية "البؤساء" عن باريس، وغيرها من الأمثلة.
توابل - ثقافات
سيرة مدينة
31-05-2016