قبل فترة قصيرة، جمعتني جلسة أدبية مع مجموعة من الشباب، لمناقشة قضايا الكتابة الشبابية الراهنة، وانصب جزء من أسئلة الجلسة على الفروقات بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة التخييل الذاتي، ولقد وعدتهم بكتابة مقال لبيان الفروقات، وهأنذا أتواصل معهم كي أفي بوعدي.

نشر الفرنسي "فيليب لوجون-Philippe Lejeune" المولود عام 1938 كتابيه؛ "السيرة الذاتية-L'Autobiographie " عام 1971 و"ميثاق السيرة الذاتية-Le pacte arutobiographiqrue" عام 1975. وقتها لم يكن الكثير من كتّاب العالم يعرف المعنى الواسع والدقيق والعميق لكتابة السيرة الذاتية، وربما لم يكن أحد قد سمع بمصطلح "التخييل الذاتي-"Autofiction" بشروحاته وقواعده، قبل أن ينبري "سيرج دوبروفسكي" Serge Doubrovsky بتعميده في روايته "ابن-Fils" الصادرة سنة 1977. لكن، ما جاء بعد ذلك من انفجار كتابات السيرة الذاتية، وتحديداً في الدول الغربية، جعل هذه الكتابات تحظى بما لا يُعد ولا يحصى من الدراسات والمؤتمرات والكتابات النقدية، وتحظى من جهة أخرى باهتمام الناشرين والقراء حول العالم.

Ad

في كتابة السيرة الذاتية يكون المؤلف هو الذات المتحدثة، وهو المحور الأهم لموضوع النص. بينما يختلف الأمر في رواية التخييل الذاتي، حيث المؤلف هو أحد شخصيات الرواية، يتكلم بصيغة ضمير المتكلم، إلى جانب شخصيات أخرى من صنعه تتكلم بلسانها وتسرد حوادث تخصها.

وكذا في كتابات السيرة الذاتية فإن المؤلف يتحدث بوصفه شخصية حقيقية، ذاكراً حوادث حقيقية مرت به، مما يعرضه للمحاسبة من قبل الجمهور في حالة الكذب. بينما شخصيات رواية التخييل الذاتي هي شخصيات متخيلة، وليس بالضرورة أنها تسرد حوادث حقيقية.

جنس الرواية، بما في ذلك رواية التخييل الذاتي، وعن طريق اللغة، يقوم بشكل فني بإعادة إنتاج صور الواقع وخلق حياة فنية تشابه حياة الواقع الإنساني المعيش، حتى أن القراء يصدقون أنها حياة حقيقية، بينما كتابات السيرة الذاتية، وبالنظر إلى فرضية انطلاقها من قول الحقيقة فهي تحاول جاهدة إقناع القارئ بأنها تقول الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة، وهي بالتالي بعيدة تماماً عن أي خيال أو تخييل.

يُعد ذكر الاسم الحقيقي للكاتب في بداية رواية التخييل الذاتي بوصفه إحدى شخصيات الرواية، ومن ثم سرد أجزاء من سيرته الذاتية الحقيقية، أحد أهم الوسائل التي تجعل القارئ يُقبل على النص الروائي بوصفه قطعة من الواقع، ويرتبط به في محاولة لتمييز الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال. وربما كان اندماج أي قارئ بشخصية روائية أو بمشهد والعيش بأجوائه، هو قمة ما يسعى إليه الفن في انتزاع القارئ من بيئته وأوجاعه والانتقال به إلى بيئة أخرى، قد تعينه على احتمال قسوة البيئة التي يعيش فيها.

السير الذاتية عادة ما تأتي كخاتمة لنهاية مطاف بعض الشخصيات المعروفة، سواء كانوا كتاباً أو غيره، وهي بالتالي كتابة تستخدم الوثائق إضافة للذاكرة في سرد تاريخي شخصي لتقديم مادتها. بينما التخييل الذاتي يعتمد على استنطاق لحظة الحدث وربطها بتذكر لحظات أخرى سابقة، وكلا الاستنطاق والتذكر يأتيان مترابطين ومتدخلين مع حكاية رئيسية تحاول بناء نفسها والوصول إلى خاتمتها أمام القارئ.

إن قراءة الرواية، أي رواية، أكثر ما تكون ممتعة في اللحظة التي يتناسى فيها القارئ حضور المؤلف ويعيش في أجواء الحكاية وكأنه جزء منها، وهذا ما لا يمكن أن توفره كتابات السيرة الذاتية، لأنها تعيد تذكير القارئ في كل لحظة بأنه أمام سيرة لإنسان آخر، وأنه لا يمكن أن يحل محله.

يبدو مألوفاً في كتابات السير الذاتية، في الغرب وأميركا، استعانة الشخصية التي تريد كتابة سيرة حياتها، بشخص أو أشخاص أو دار نشر للمساعدة في كتابة السيرة وإخراجها بالصيغة الأفضل. لكن في كتابة رواية التخييل الذاتي فإن المؤلف يقوم منفرداً بكتابة أجزاء من سيرة حياته، وسيرة حياة شخصيات يقوم بتخيّلها؛ كون الرواية فعلاً إبداعياً شخصياً بحتاً، ولا يجوز بأي حال من الأحوال الاستعانة بأحد للمساعدة في الكتابة.