يحمل معرضك الراهن «ناس» دلالة ازدحام البشر والأفكار والحوادث، كيف جاءت فكرته؟

Ad

كنت أعمل في موضوعات خاصة بتجليات الجسد وحرث الأرض، على رؤية تجمع بين الحيوان والطير والشجر بشكل يتضمن إيماءة للجسد، ولكن من خلال التجربة التعبيرية. تقوم التجربة الخاصة بي منذ بدأت العمل الفني على العلاقة بيني وبين الأشياء التي أرسمها. لهذه المسافة علاقة بالرؤية. بدلاً من رسم منظر طبيعي أقترب من الأرض أو الأشياء فأرى تفصيلاً يعطيني لغة بصرية تبدو تجريبية تعبيرية ولكن لها مرجعيات في الطبيعة. واقتربت تجربتي من المكان، وبالتالي التفاصيل هي التي تحكم اللغة البصرية لدي على مستويات اللون والتفاصيل والبناء. وكنت طوال الوقت أسأل نفسي سؤالاً: لماذا لا تتضمن لوحاتي الناس؟

وها أنت قدمت الناس في أعمالك الأخيرة، فهل لك أن تكشف لنا عن الحوار بينك وبين الشخصيات التي منحتها وجوهاً متباينة تترواح بين الشريرة والطيبة؟

بعد الرسم تتضح لي الشخصية فأتحدث إليها. أعرف كل فرد رسمته. أضع أحياناً لمسة صغيرة كي أؤكد لنفسي هذه الشخصية، لكن الأخيرة تخرج لي من اللوحة.

وهل بدورك عقدت لهذه الشخصيات محاكمة، كونك تعرف سلبياتها؟

لا بالطبع، لسبب بسيط فأنا لست حاكماً عادلاً أو ملاكاً، ولكن من الوارد أن أكون أصعب من الشخصيات. الفنان ليس ملاكاً، بل فيه الصفات الإيجابية والسلبية كافة وهذه قيمته، ولكن الجيد يغلب بعض الصفات على غيرها، كي يكون إنساناً خيراً.

رسمت نفسك وسط الناس، فكيف وجدتها؟

رسمت نفسي في حالتين... وبعد رسمهما تظهر للمتلقي المعاني التي يحملها البورتريهان، أولاً لم أرسمهما من مرآة أو صورة، أعرف أن شعري أبيض وأنفي أعوج. أحفظ شكلي، وقد رسمته من ذاكرتي بسرعة حتى لا أتردد أو أتعمد أي شيء.

يرى البعض أنك لم تكن موفقاً في التشخيص بهذا المعرض على العكس من التجريد والحفر اللذين تميزت فيهما؟

في معرض «ناس» لم أرسم تشخيصاً. إذا قلبنا اللوحة ستظهر لوحة من لوحاتي القديمة بالبناء نفسه. الفكرة أن عمارة الصورة في هذا المعرض هي وجه الإنسان، بذات الروح والإيقاع والأداء والجرأة في اللون التي شهدتها أعمالي السابقة. ولكن في هذه التجربة زادت المغامرة نوعاً ما.

عمري 65 عاماً، وأعمل ضد مكتسبات صناعة الصورة. لم أستثمر صناعة الصورة التي أصبحت «حريفاً» فيها كما فعل البعض، ولكني غامرت وحفرت بئراً جديداً للإبداع. المفترض أن أكافئ نفسي عليها كوني لدي القدرة على التمرد على فن الصورة التي اكتسبتها.

ثمة فنانون يخشون تغيير جلدهم أو طرق باب جديد حتى لو كان به بعض العيوب رغم أنه سيكون لهم شرف المحاولة. لو أنني فنان محدود كان من الممكن أن أستثمر تجربة الطباعة البارزة wood cut التي تعد علامة بارزة في تاريخ الحفر، لكن أن أتخلى عن ذلك وأقوم بمغامرات في هذا العمر فهذا أمر جميل له متعته، لأن الفنان في ظلّ الظروف التي نعيش فيها لا بد من أن يستمتع بمنجزه الأول ثم يأتي موضوع البيع والشراء، لكن سوف يُحمد لي أنني كفنان يملك القدرة على البحث والتجريب في هذا العمر وبعد هذه الخبرات.

وبالنظر إلى الحركة التشكيلية العربية، ليست لدي تبعية ثقافية أخرى غير ثقافتي أنا، أنا عبد الوهاب عبد المحسن المصري علي شهاب الدين العربي الذي يعيش في الريف منذ ولادته حتى اليوم ومرجعياتي معروفة، من يضبطني متلبساً بالنقل أو الاقتباس يخبرني، حتى لو تشابهت مع فنانين في حضارات أخرى فالحضارات كلها تتشابه، فعندما تكون الطبيعة هي المصدر قد يحدث تشابه، لكن في النهاية يكمن الفرق في روح الفنان وثقافته وعلاقته بالأرض.

حوار بصري

كيف يخلق الفنان حواراً بصرياً بين جمهور ونخب المتأملين في روح اللوحة؟

كي يعيش الفنان تجربة إبداعية لا بد من أن تكون لها علاقة بواقعه وبيئته، فالصياغة تتطور بالثقافة والمشاهدة. الطبيعة هي الأساس، وهي متغيرة يومياً وكل لحظة. ما دامت الشمس تدور والأشياء تتفاعل مع الشمس، ودرجة الضوء تتغير من لحظة إلى أخرى، فبالتأكيد الرؤية البصرية تتغير، إن كان الفنان معايشاً لواقعه. أما إذا كان مغيباً ويعتمد في تجربته على ثقافة الكتب والتأثر بتجارب الآخرين فإن التجربة تكون ضعيفة، أو على الأقل يغيب التواصل الكامل بينها وبين المتلقي، لأن الأخير معني بالأشياء التي تخصه.

في الوقت نفسه، أعتقد أن الفنان ابن بيئته، وإذا أردت معرفة حجم الكارثة التي نعانيها أنظري إلى عدد الفنانين وعدد ممارسي الفن ومساحة القبح التي نعيشها في المجتمع وحالة التغريب التي يعيشها الفنانون أنفسهم، ما يعني أنهم يتحدثون لغة لا علاقة لها بالجمهور وفي الوقت نفسه لا تخصّ الفنان نفسه. مطلوب من الفنان أن يعبّر عن واقعه، لأن المدارس والصياغات الفنية في التاريخ تتحد من خلال المواقف التي يعيشها الإنسان، والفن يواكب جميع الحوادث.

في إطار عملك في اللوحة، ما هي طبيعة الحوار الذي يدور بينكما؟

محوران أعمل من خلالهما في الفن: الأول أن يكون العمل شبهي وبمنطق الهواية، بمعنى ألا أدخل إليه بصورة مسبقة وفي النهاية أقوم بمحاكاتها ثم أنفذها، ولكني أترك نفسي على السطح الذي أرسمه، وأكون حريصاً على أن يكون عبد الوهاب موجوداً وليس شخصاً آخر. يرتكز المحور الثاني على المسافة بيني وبين أشيائي التي أرسمها، وهل أفضل أن أكون قريباً من الأمور التي أرسمها أم بعيداً؟ وهل أغرق في التفاصيل؟ وبالنسبة إلى عملي، فإن المسافة تتحكم في صياغته. عندما أبتعد تتوحد تفاصيل الكون كله في رؤية. لغة التشكيل هي {السيد} في العمل التشكيلي، فعندما أرسم أتحدث بلغة بصرية خالصة، لا أتعمد التأليف في أي عمل، بل لا بد من أن يحدث تدفق على السطح، الخط يستدرجني لما بعده من خطوط.

ما أعظم انتصار حققته؟

ساهمت في فعاليات وصلت إلى الناس، ورأيت فرحتهم بالفن. سعيد أنني أرسم وأفرح بلوحاتي. لم أجني ثروة منها، على العكس اضطررت إلى أن أقبل وظائف كي أعيش منها. ولكني عشت من الفن أدبياً، شعرت من خلاله بذاتي، لم أنتظر منه عائداً مادياً إلا أخيراً. طوال عمري لم يكن رزقي نقوداً ولكن اللوحة رزق مركون.