في «مذكرات زوجة دستويفسكي، آنَّا جريجوريفنا ديستويفسكايا»، وهو شهادة زوجة أحد رموز الأدب الإنساني الذي جسَّدت أعماله الروائية مشاعر الغالبية من الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة في العالم رغم أنه كان سليل عائلة من الأغنياء الروس، تلمح انحياز الكاتبة إلى دورها في حياة الرجل، وقد لا يفارقك شعور بأنها أدت الدور الأكبر في مسيرته، ذلك رغم أن الزوجة «آنَّا» في الأصل كانت مجرد «مُخْتَزِلة»ـ مهنة عُرفت في أوساط المثقفين الروس، تشبه إلى حد كبير مهنة «مُصحِّح» اللغة العربية، وحين دخلت بيت ديستوفسكي كانت لا تزال فتاة صغيرة لا يزيد عمرها على 19 عاماً، لكنها تعترف أنها تعلمت في هذا البيت ما لم تتعلمه أبداً في حياتها.

اختار دستويفسكي (11 نوفمبر 1821 موسكو، 9 فبراير 1881 سانت بطرسبرغ) «أنَّا» في البداية كي تعمل عنده بأجرٍ شهري «مُختزِلة»، فكان يملي عليها رواياته، لتُعيد هي صياغتها بما يتناسب وقواعد النشر في الأدب الروسي، قبل أن يلقي الكاتب النظرة الأخيرة على النص، بعد اختزاله، وتعديل ما يشاء فيه، ثم دفعه إلى الناشر.

Ad

هذه الشابة الرقيقة والمهذبة، التي اقتحمت حياة الرجل في خريف العمر، أصبحت خلال أشهر قليلة «خطيبة» الكاتب، ثم زوجته وأم أولاده، فقد كان فيودور دستويفسكي «أرملاً» في الاثنين والأربعين من عمره، ويمثل بالنسبة إليها كاتباً كبيراً ومُلهماً ورمزاً وطنياً، بينما كانت هي محضُ فتاة صغيرة لم تصل إلى سن العشرين بعد، تعشق كثيراً من أبطال رواياتهِ، وتحفظ بعضَها عن ظهرِ قَلب، وتندهش لأن زوجها لم يكن يتذكر بعض رواياته جيداً.

سيمفونية من المعاناة

«مذكرات زوجة دستويفسكي» كتاب كبير (نحو 630 صفحة من القطع المتوسط)، صدر لأول مرة في لغته في عام 1923، وترجمه أنور محمد إبراهيم إلى العربية، وأصدره «المركز القومي للترجمة» أخيراً،  ليكون أفضل دليل على معاناة الكاتب الكبير «روائي الفقراء»، أحد آباء المؤسسين للأدب الروسي، وأكثر روائيي العالم تأثيراً في الأجيال اللاحقة عليه، والذي كانت حياته، في الوقت نفسه، سيمفونية هائلة من العذاب والمعاناة والديون والرهونات والمقامرات والخسائر، فلا يُمكن لشخص طبيعي أن يتخيل هذا الكم الهائل من التناقض، بين قدرة الروائي على كتابة الحياة أدباً رفيعاً ومؤثراً بمثابرة استثنائية، رغم أنه كان غارقاً، كمواطن، حتى الثمالة، في تفاصيل الحياة الواقعية، بشتى ما فيها من عذابات وآلام وجروح وطموحات لا تنتهي.

كان دستويفسكي، كما يعرف كثيرون، مصاباً بمرض الصرع، وكانت النوبات تأتيه كثيراً مرتبطة بحالات الضيق والاكتئاب ورفض الواقع، إذ كان ينفق على عددٍ كبير من أفراد عائلته، ويلزم نفسه بنفقاتهم، وكانوا هم في المقابل أشراراً لا يستحقون عطفه، يحاصرونه بالطلبات فلا يبقى في حوزته إلاّ ما يستطيع به أن يعيش نصف مديون أمام زوجته الشابة ميسورة الحال. وكان بين هؤلاء الأقارب الأوغاد، عدد من أبناء العمومة الذين فقدوا ثرواتهم، ومنهم أيضاً «بافل ألكسندروفيتش»، الشاب ابن زوجته المتوفاة، من زوجها الأسبق. كان يعيش معهم في بيتٍ واحد، وأذاق الزوجة صاحبة المذكرات «صنوفاً من العذاب» وهو يدس لها ويكذب عليها ويدعي أنها أضرّته، ليكسب عواطف دستويفسكي الساذج، الغارق في أحلامه وقصصه، غالبية ساعات اليوم.

هذه هي المرة الأولى التي أصادف فيها صاحب «الجريمة والعقاب»، وهو يحمِّم طفلتَه، يداً بيد زوجته، وقد رَوَت عنه قصصاً مبهرةً تعكس مدى حبه لها وتسامحه معها وتفهمه لطلباتها، بعدما كان في البداية بعيداً كل البعد عن تفاصيل البيت، إلى درجة أنه بات يُخصص جزءاً كبيراً من وقته لبيته وأولاده. يقول الكاتبان الروسيان، بيلوف وتونيمانوف اللذان أعدَّا مقدمة هذه المذكرات: «فتحت مذكرات «آنَّا»، الباب أمامنا للمرة الأولى، لندلفَ إلى داخل بيت دستويفسكي، وأخذت بيدِ القارئ إليه، بعد أن قدمت له رجلاً آخر لم يعرفه أحد سواها، وعلى هذا النحو سوف تقدم لنا آنَّا، على سبيل المثال، دستويفسكي في لحظة من لحظات اعترافه، أو وهو يرتجل أمام زوجة المستقبل موضوع روايته التي هو بصدد كتابتها، فيصف لها الحبكة التي سينسج من خلالها «الحالة النفسية لفتاة شابة». إنه يؤلف ويحكي، في الوقت نفسه، سيرته الذاتية من دون أن تزيلَ الحدّ الفاصل بين الفن والحياة، وإنما يُفسر بشكلٍ واضحٍ، كيف يمكن عبور هذا الحد».

«الصرع» والديون

لم يكن «الصرع» مرضاً معروفاً في تلك الأيام البعيدة، منتصف القرن التاسع عشر، في روسيا والعالم، بل كان غامضاً إلى حد ما، لذلك أفاضت الكاتبة في وصف دستويفسكي وهو تحت تأثير نوبة من نوبات هذا المرض اللعين، الذي كان عبئاً إضافياً على كاهل الكاتب الكبير، الذي كان يعرف أن الحياة أقصر من أن نضيعها في نصوص تافهة.

تقول الكاتبة: «كان فيودور ممتلئاً حماسة وهو يقص على أختي شيئاً ما شيقاً، وفجأة ارتج عليه القول، واعتراه الشحوب وقام من مقعده نصف قيام، ثم راح يميلُ باتجاهي، نظرتُ إلى وجهه في ذهول، وقد تغيّرت ملامحه، وفجأة دوت صرخة مرعبة وكأنها غير صادرة عن بشر، هي على الأرجح عواء، وأخذ فيودور يميل إلى الأمام... فيما بعد تسنى لي عشرات المرات أن أستمع إلى هذا العواء «غير البشري»، المعتاد لمرضى الصرع في بداية النوبة، أمسكتُ فيودور، وأجلسته بقوة على الأريكة، وكم شعرتُ بالرعب عندما رأيت جسد زوجي الذي فقد القدرة على الإحساس، قد بدأ ينزلق من الأريكة ولم تكن بي القدرة على إيقافه، فسمحت له بالهبوط على الأرض، بعد أن أبعدت الكرسي وعليه مصباح مضيء، ورحتُ أهبطُ معه بدوري وطوال الوقت كان التشنج يهز رأسه فوق ركبتي».

ترك «الصرع» أثراً لا يُمحى في ذاكرة صاحبة المذكرات، لكن الديون كانت صاحبة التأثير الأكبر في حياة صاحبنا الكاتب قليل الحظ، في الحياة الواقعية، مؤلف «الأخوة كرامازوف». قالت زوجته إنه كان كثيراً ما ينهي رواياتهِ بسرعة، وسرعان ما يأسف لذلك، ليرسلها إلى النشر في المجلات، ويتقاضى عنها أجراً، يسدد به بعض الديون، ثم يرسلها إلى دور النشر لتطبع، وفي أحيانٍ كثيرة كان يتقاضى أجوراً عن روايات لم تُكتب بَعد، وما إن يحاصره الديانة، حتى يكون ملزماً بأن يُنهيها فوراً. وهي قالت إنه كان يأسف كثيراً لأنه لم يتح له الوقت الكافي، ليفعل كل ما يريده في رسم شخصية ما هنا، أو صياغة موقف ما، هناك.

إلى هذا الحد كان الكاتب غارقاً في العالم، قادراً على استخلاص أجمل ما فيه. تروي صاحبة المذكرات هذه الحكاية على سبيل المثال، لتدلل على أن صاحبنا، كان قليل الاعتناء بما وصلت إليه ديونه، بل كان كثيراً ما يتصرف بوصفه رجلاً ثرياً، رغم أنه كان دائماً غارقاً في الديون، مضطراً إلى رهن حفنة معالق فضية، ليسدد ديناً لصديق: «ذات يوم وكنت قد حضرتُ للعمل، لاحظت اختفاء واحدة من آنيتيّ الزهور الصينيتين، اللتين كان فيودور قد تلقاهما هدية من أصدقائه، السيبيريين، وسألته: معقول أن يكون أحدهم قد حطم الآنية؟». أجابني: «لا، لم يحطمها أحد، وإنما ذهبوا بها إلى محل الرهونات. كنت في حاجة ماسة إلى خمسة وعشرين روبلاً فاضطررت إلى رهنها». ومرة أخرى، لاحظتُ وجود ملعقة خشبية على المائدة المعدة لطعام الغداء، وحين سألته قال: «كنا بحاجة إلى النقود فأرسلتُ الملاعق الفضية لرهنها، فقد تبين أنهم يعطون مالاً أقل بكثير مقابل القطع المفردة، فأعطيتهم الطقم بأكمله»... كان فيودور يتعامل دائماً مع متاعبه المالية برضاً كامل»...