معاداة السامية من اليسار

نشر في 03-06-2016
آخر تحديث 03-06-2016 | 00:05
معاداة السامية ضمن اليسار تعتبر سامة مثل معاداتها ضمن اليمين، ولكن دور إسرائيل في الجدل السياسي الغربي يظهر كيف أن التحيز يمكن أن ينتقل من مجموعة لأخرى، في حين تبقى المشاعر الكامنة كما هي.
 بروجيكت سنديكيت أوقف حزب العمال عمدة لندن السابق والسياسي اليساري في الحزب كين ليفنغستون بعد أن ادعى أن هتلر كان صهيونيا في أوائل الثلاثينيات "قبل أن يصبح مجنونا ويقتل 6 ملايين يهودي"، إذ أراد هتلر أن يطرد اليهود من بلدانهم إلى فلسطين وهذا من المفترض أن يجعله صهيونيا.

هذا الكلام هو محض هراء من الناحية التاريخية، فهتلر لم يروج مطلقا لفلسطين كدولة يهودية، والتمليح بأن كراهية الفوهرر لليهود جعلته يتبنى الأفكار نفسها لليهود الذين رغبوا في بناء دولتهم من أجل الهروب من معاداة السامية، هو تلميح يمكن وصفه بالمهين على أقل تقدير.

لكن ربما كان ليفنغستون صادقا عندما قال في معرض الدفاع عن نفسه "إن الشخص المعادي للسامية بحق لا يكره اليهود في إسرائيل فحسب، بل يكره جيرانه من اليهود فهي كراهية مادية". إذاً كراهية اليهود في إسرائيل مبررة لأنهم "صهاينة" والمشاعر ليست غريزية. إن مما لا شك فيه أن جيرمي كوربين الزعيم اليساري لحزب ليفينغستون كان صادقا كذلك عندما قال إن معاداة السامية لا يمكن أن تكون مشكلة تتعلق باليسار لأن حزب العمال كان دائما "معاديا للعنصرية".

إن اليساريين في أوروبا عادة ما يشعرون بالثقة الزائدة عندما يقولون إن التحيز العرقي، بما في ذلك معاداة السامية، هو ظاهرة يمينية، وهذا ربما يعود لقضية دريفوس في آواخر القرن التاسع عشر، فعندما اتُّهم الفرنسي النقيب بالجيش ألفرد دريفوس زورا بالخيانة في محاكمة ملفقة سنة 1894 انقسم المجتمع الفرنسي بين المعارضين لدريفوس وغالبيتهم من المحافظين وبين المدافعين الليبراليين عن الضابط اليهودي. لقد كان المحافظون عادة من الروم الكاثوليك المتشددين الذين لم يكونوا مرتاحين بالمرة لوجودهم في جمهورية فرنسية علمانية يرون أنها مرتبطة بالليبراليين واليهود.

لكن معاداة السامية الفرنسية الرجعية كانت تعكس توجها أعم في أوروبا القرن العشرين، فقد كانت هذه المعاداة عادة ما تشمل القوميين الذين يركزون على أواصر الدم والأرض، والمسيحيين من اليمين، والمعادين المتعصبين للبلاشفة والسلطويين المهووسين بالنظام الاجتماعي، فكان اليهود في وضع أفضل تحت ظل الحكومات اليسارية.

هذا يجعل من السهولة أن ننسى أنه كانت دوما هناك مسحة من معاداة السامية ضمن اليسار كذلك، فستالين كان يتمتع بسمعة سيئة في اضطهاد اليهود، أو "العالميين بدون جذور"، كما كان يسميهم، حيث كان يعتبرهم وكلاء طبيعيين للرأسمالية وأشخاصا خائنين للاتحاد السوفياتي، ولكن قبل ستالين بفترة طويلة كان كارل ماركس نفسه، وعلى الرغم من أنه كان يهودي المولد، متبنيا لنوع خبيث من معاداة السامية، والذي أصاب اليسار خصوصا في فرنسا.

لقد كان ماركس هو الذي كتب "إن المال هو إله إسرائيل الغيور"، وإن العبرية هي "مصدر وحي لاقتباسات البورصة"، علما أن ماركس لم يكن غافلا عن مخاطر معاداة السامية، فلقد كان يعتقد بكل بساطة أنهم سيذهبون بعيدا عندما يتم تأسيس جنة العمال، ومن الواضح أنه كان مخطئا في هذا الخصوص.

عندما أُسست دولة إسرائيل سنة 1948 كان الاتحاد السوفياتي واليساريون بشكل عام متعاطفين للغاية معها، ولعدة عقود هيمن الاشتراكيون من الأصول الروسية والبولندية على السياسة الإسرائيلية، ولم تُعتبر الصهيونية بعد أحد أشكال العنصرية الضارة إلى جانب الإبارتيد في جنوب إفريقيا، ولم تكن هناك حاجة "للشعور بالكراهية تجاه اليهود في إسرائيل".

بدأت الأمور تتغير في أوائل السبعينيات بعد احتلال الضفة الغربية وبقية المناطق العربية، فبعد وقوع انتفاضتين خسر اليسار الإسرائيلي السلطة لمصلحة اليمين، وأصبحت إسرائيل بشكل متزايد مرتبطة بالأشياء التي كان اليسار دوما يعارضها، مثل الاستعمار واضطهاد الأقليات والعسكرة والشوفينية القومية، وبالنسبة إلى بعض الناس كان من المريح أن يستطيعوا كراهية اليهود مجدداً، لكن هذه المرة تحت ستار المبادئ النبيلة.

وفي الوقت نفسه وللأسباب نفسها أصبحت إسرائيل تتمتع بالشعبية لدى اليمين، والناس الذين كانوا من الأشخاص المتحمسين لمعاداة السامية، قبل وقت ليس بالطويل، أصبحوا الآن أبطال عظماء في تأييد إسرائيل، بل يناصرون الخط المتشدد للحكومة الإسرائيلية مع الفلسطينيين.

بالنسبة إلى النظرة السائدة لدى اليمين فإن إسرائيل هي مهد "الحضارة اليهودية المسيحية" في "حربها ضد الإسلام"، وكما قال الديماغوجي الهولندي جيرت فيلدرز "عندما لا يعود العلم الإسرائيلي يرفرف فوق أسوار القدس فإن الغرب لن يبقى حراً".

ومن الجدير بالملاحظة أنه عادة ما يتم استخدام العبارات المجازية القديمة المعادية للسامية في خطاب أولئك المطبلين لإسرائيل، ولكن هذه المرة فإن المسلمين لا اليهود هم الهدف، حيث تتم إفادتنا مرارا وتكرارا بأن المسلمين في الغرب ليسوا مواطنين مخلصين، فهم دائما يناصرون جماعتهم ويكذبون على الناس الذين لا ينتمون إلى دينهم، كما أنهم خونة وطابور خامس يسعى إلى الهيمنة على العالم، وأن دينهم لا يتوافق مع القيم الغربية وهكذا دواليك.

إن التهديدات الحقيقية التي تأتي من حركة ثورية عنيفة ضمن العالم الإسلامي قد تجعل مثل هذه الادعاءات قابلة للتصديق بالنسبة إلى العديد من الناس، ولكن في معظم الحالات يجب أن يتم التعامل مع تلك الادعاءات على أنها تحيز قديم وبالٍ، يهدف إلى إقصاء أقلية لا تتمتع بالشعبية عن الأغلبية السائدة، فالعنف الإسلامي يساعد فقط في تعزيز سياسات الكراهية والخوف، والعديد من المحاربين الغربيين، في ما يطلق عليه الحرب ضد الإسلام، هم في الواقع عبارة عن النسخة الحديثة لأولئك الذين كانوا يناصبون دريفوس العداء.

إن هذا الكلام لا يبرر اللغة القذرة التي استخدمها ليفنغستون وآخرون مثله، فمعاداة السامية ضمن اليسار تعتبر سامة مثل معاداتها ضمن اليمين، ولكن دور إسرائيل في الجدل السياسي الغربي يظهر كيف أن التحيز يمكن أن ينتقل من مجموعة لأخرى، في حين تبقى المشاعر الكامنة كما هي.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في كلية بارد، ومؤلف كتاب "سنة الصفر: تاريخ سنة 1945".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top