أصدر الدكتور خالد علي مصطفى كتاباً بعنوان "شعراء البيان الشعري" (دار ميزوبوتاميا 2015)، درس فيه بصورة موجزة المرحلة الشعرية المبكرة، التي اعتبر البيان الشعري عام 1969 تعبيراً عنها، لثلاثة شعراء هم: سامي مهدي، وفاضل العزاوي وفوزي كريم؛ واكتفى هو، باعتباره رابع شعراء البيان، بنشر نص شعري له. ولقد كنت، قبل أن أشرع بقراءة الكتاب، على شيء من التوقع لما سيصدر عن خالد من مواقف نقدية، بشأننا جميعاً، بالرغم من رغبته المعلنة في المراجعة الموضوعية. فهو، وسامي مهدي، من مثقفي المرحلة التي حكم فيها حزب البعث، وصدام حسين العراق والعراقيين. في حين كنت أنا وفاضل العزاوي، من مثقفي المنفى الذين رفضوا، وفق منظورهم، سلطة الحزب الواحد، وسلطة الدكتاتور. وبالرغم من محاولة السيد خالد بتحكيم ذائقته، والمعيار النقدي الموضوعي كما يعتقد، في النظر إلى شعرنا جميعاً، ولكن الظرف التاريخي البالغ الاضطراب والإفساد، الذي مرغ العراق بالوحل عبر قرابة نصف قرن، سيتحكم بالذائقة وهي مخدّرة، وبالمعيار النقدي وهو فاقد التوازن.

أراد السيد خالد علي مصطفى في مقدمة الكتاب أنْ يضع إصبعه على هذا الجرح، ولكن بمحاولة قصدية للالتفاف عليه، حين يكتب: "لا أظن أن جماعةً من الشعراء واجهت من الخصومة ـ إن لم نقل من العداء ـ ما واجهه شعراء جيلي، جيل ما بعد السياب. لقد شنّ عليهم الأيديولوجيون، بمذاهبهم كافة، حملة شعواء، لم تُبق شيئاً منهم ولم تذر... كان الأيديولوجيون قد أوقفوهم في قفص الاتهام السياسي، وحاكموهم بموجب مقررات أحزابهم وانتماءاتهم، ماركسية كانت أو قومية، ثم أصدروا عليهم حكم "الإدانة" بحيثيات مبتوتة الصلة بالأدب والفكر.." (ص14).

Ad

ولأنني شاعر من هذا الجيل، وموضوع من مواضيع كتاب الاستاذ خالد، لا أعرف لمن تشير أصابعه حين يتحدث عن شعراء جيله الضحية، وعن الأيديولوجي الجلاد. والأيديولوجي، كما أعرف ويعرف خالد، هو المنتسب لعقيدة، أو لحزب ذي عقيدة. فمن مِن شعراء جيله الضحية لم يكن فخوراً بانتسابه العقائدي، أو الحزبي، ماركسياً كان أو قومياً، ومنتصراً كان أو منكسراً؟ القارئ لا يحتاج مني أن أضع قائمة بكل أسماء شعراء الجيل الستيني، وأُعين انتماء كل واحد منهم. ولعل انكساراتهم التي اتضحت بعناوين دواوينهم، وقصائدهم، ما هي إلا انكسارات رجل العقيدة الحزبية، يوم رأى أن الانسان في حزبه لم يرتقِ إلى مصاف الفكرة المقدسة.

لنقرأ هذه الجملة لخالد علي مصطفى يتحدث فيها عن الشاعر سامي مهدي: "لم يكن سامي مهدي، بعد ديوانه الأول، معنياً بأن تكون البواعث الأيديولوجية دافعاً لكتابة الشعر عنده بصورة مباشرة، إلا إذا تلامحت خفية من وراء القصيدة. لقد أخذت قصيدته تخترق هذه القشرة، على نحو تصبح فيه ملاحظة العين، أو مكونات النفس المُدركة أو غير المدركة، أو حيرة العقل في تأملاته الماورائية، هي المادة الغفل، التي يحولها التعبير إلى قصيدة دالة، في معناها الثاني، على وعي ذاتي خاص، تتفجر فيه المشاعر بكل هدوئها، وضجيجها، وتوترها.." ص38

إنها جملة نقدية حائرة، تريد أن تفلت من مأزق الاعتراف الذي أدلت به في قولها عن البواعث الأيديولوجية التي يريدها الشاعر أن تتلامح خفية من وراء القصيدة. إنه إذن معني بأن تكون هذه البواعث دافعاً لكتابة القصيدة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والأخطر أن تتقنع هذه الدوافع الأيديولوجية بقناع "الوعي الذاتي الخاص"، الذي تتفجر فيه المشاعر، بكل هدوئها، وضجيجها، وتوترها. إن خالد هنا يمنح مصداقية لكل مشاعر الكراهية، والروح الهجائية في قصائد سامي مهدي، ما دامت قد خرجت بصورة غير مباشرة من البواعث الأيديولوجية، بالرغم من أن هذه الكراهية المُعلنة، والتنكيل المصوّت بالآخر لم يكونا كما تريدهما جملة خالد علي مصطفى النقدية: أن تكون قد تلامحتْ خفيةً من وراء القصيدة. إنه يريد أن يبرئ، بأي ثمن، شعر سامي مهدي من البواعث الأيديولوجية. لأن هذه البواعث لو توفرت فلن تكون لمصلحة الشعر.