في التاريخ الحديث للشرق الأوسط، برز الأكراد بوصفهم نموذجا ساطعا لهشاشة التراكيب الأهلية وانقساماتها في المنطقة وجرعة العنف والقسوة الهائلتين اللتين عادة ما تصاحبان أوضاعا كهذه، وخلافا للمرويات التاريخية الشائعة فإن العنف الموجه إلى الأكراد لم يكن حكرا على جيرانهم العرب والفرس والأتراك، ففي عشرينيات القرن المنصرم، مارس سلاح الجو البريطاني قصفا وحشيا استهدف بلدات الأكراد وقراهم، وكانت هذه الحملة حينذاك مقدمة لرسم خرائط المنطقة، وبداية لأطوار متصلة من الاضطهاد والعنف ضد الأكراد يصح معها القول إن ما عايشه الأكراد من عذابات وتضحيات لم تختبره أي من حركات التحرر الوطني في الشرق. غير أن إطاحة الأميركيين بنظام صدام حسين عام 2003 كادت أن تصنع من المستحيل واقعا، فحدث تاريخي كهذا جعل الأكراد قاب قوسين أو أدنى من إنجاز استقلالهم تحت مسمى حكومة إقليم كردستان، فقد كانوا في ظلال الوضع الجديد مكونا رئيسا في الحكومة العراقية ببغداد، وظهر جيشهم الخاص –البيشمركة– كأكبر قوة عسكرية منظمة وموحدة في العراق مقارنة بميليشيات أخرى يقودها متعصبون طائفيون. ولئن زادت وتيرة التفتت الأهلي في بقية العراق، فقد تكفلت ثروة النفط وارتفاع أسعاره بتبديد شبح الفقر والقمع العسكري عن خمسة الملايين كردي الذين يعيشون في إقليم كردستان، وبسطت لهم تلك المقدمات حياة أبصروها بعين خيالهم تضاهي حياة مدن خليجية معولمة كدبي، ولاحت شروط إنفاذ هذا الخيال في استثمار الأسمنت والطوب عبر تشييد الفنادق الفخمة ومجمعات التسوق الفارهة والأبراج السكنية العملاقة.
ولكن هذا الحلم تلاشى سريعا وعلى نحو دراماتيكي، ففي عام 2014 قام تنظيم الدولة الإسلامية بشن هجوم كبير على الأكراد في الوقت عينه الذي تهاوت فيه أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها، وكان هرب البيشمركة من تنظيم الدولة أسرع من انسحاب الجيش العراقي. وبعد أن اتضح للأكراد عدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، طلبت حكومة إقليم كردستان مساعدة أميركا وإيران، وحاليا تقف حكومة الإقليم على حافة الإفلاس مع إعلانها عدم قدرتها على سداد رواتب موظفيها، وتصريح أميركا في أبريل الماضي بتخصيصها نصف مليار دولار من أجل الإنفاق على قوات البيشمركة والمحافظة عليها. الإخفاق في خلق دولة كردية مستقلة ليس أمرا جديدا، فهو عينة من نماذج سخية في تكرارها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال ربع القرن الماضي، وما إقليم كردستان إلا مثال فاقع دراماتيكي، فعلى امتداد الشرق الأوسط تأخذ الدول في الضعف أو الانهيار، وهي ظاهرة تضرب جذورها العميقة في الاهتمام الكبير بالأيديولوجي على حساب الدولة ووظائفها القانونية والدستورية. فالأكراد شأنهم شأن جيرانهم العرب عاشوا، حتى التشبع، ثقافة الأمة والقومية من دون دولة، وها هم يتبعونهم حذو النعل بالنعل على طريق الزعم القومي الفارغ. وكما في شواهد تاريخية متباينة، لم يتأتّ عن استحالة تحقيق الأحلام القومية إلا تعاظم الولاء لجماعة لا تجد معناها إلا في كراهية الجماعات الأخرى، وامتلاك موقف سلبي جامع من الحداثة في وجهيها الدستوري والإنساني، وهذا أيضا نتاج مباشر لسنوات الاستبداد المديدة، تحولت المنطقة بسببه إلى أرض خصبة للتناحرات المطلة دوما على كل ما هو غريزي وبدائي؛ فالأحلام لا تكفي لبناء دول.
مقالات
عن الأكراد وأحلامهم
05-06-2016