الرسم بالنسبة إلى شانتال غريّب جزء من شخصيتها، من خلال الريشة والألوان والحركة تفجّر حالاتها النفسية... فالرسم في النهاية لا ينفصل عن شخصيتها ويمثل الحياة بالنسبة إليها، ذلك كله ضمن أسلوب تعبيري وتجريدي ينبض بالمشاعر الإنسانية في الحالات المختلفة والظروف، ويجعل الوجه انعكاساً لأعماق النفس، لذا تركز غريّب على العواطف الحقيقية والأصيلة التي نخبئها دائماً خشية ردود فعل الآخرين.

Ad

استلهام من الحضارات

ولدت شانتال غريّب في بيروت عام 1968، في عائلة جذورها عميقة في الفن والمسرح، فساندها محيطها، لا سيما قريباتها الشاعرة والرسامة التشكيلية لور غريّب والرسامة التشكيلية اسبرانس غريّب. تابعت دروساً في الفن والتصميم، وعملت بداية في الهندسة الداخلية والسيراميك قبل أن تطور عملها في الرسم بواسطة الزيت والأكريليك. أقامت معارض فردية وشاركت في معارض جماعية في لبنان والإمارات العربية المتحدة وانكلترا وفرنسا وأميركا.

استقت شانتال غريّب لوحاتها الأولى من الحضارات القديمة والديانات وجعلت من الرموز وسيلة تعبير، فضلاً عن التكرار، ما يدلّ على انتظام متأصل في الحياة؛ وهذا النمط لا يزال واضحاً في أعمالها الأخيرة. اللافت أنها توظف ضربات الفرشاة في أضيق الحدود، وتتآلف مع الألوان في إيقاعات توجه المشاهد وتجبره على التماهي مع الفكرة والخطوط والألوان...

من خلال ذاكرتها الخاصة، تراقب شانتال غريّب العلاقات الإنسانية وتعتبرها القوة الدافعة لجوهر أعمالها، التي تبرز فيها نظرتها إلى محيطها وعلاقتها به، من هنا يمكن تفسير الأقنعة التي تظهر على الوجوه في معظم الأحيان، حتى لو أرادت هذه الوجوه أن تنكشف فهي ترفعها جزئياً، وكأنها في تجوالها على دروب الحياة تخشى التمزق في حال أظهرت وجهها الحقيقي. الوجه عند شانتال غريّب انعكاس للعمق الذي يتحلى به الشعب وليس الإنسان بمفرده، كيف لا وهو جزء من هذا الشعب، يتفاعل معه ويعبر عن ردود فعله تجاهه، مع أنه قد يخفيها في ظروف معينة ويخشى إبرازها. من هنا تركيزها على المشاعر الحقيقية، على النفوس الضائعة وعلى الخوف... ذلك كله تحت عنوان عريض هو تقرير المصير، مع العلم أن نظرتها ليست سوداوية بل يتخللها بعض الأمل من خلال مسحات لونية تعبر شيئاً فشيئاً عن تحولات واحتمالات لا حصر لها.

كانت البداية في مهرجان درج الفن – الجميزة (بيروت)، بعد ذلك حلّقت شانتال غريّب في سماء الرسم التشكيلي من لبنان إلى العالم، بعدما اختارت لنفسها عنواناً عريضاً هو رسم حالات الإنسان النفسية من دون وضع رتوش عليها، لذا يبدو في لوحاتها ممزقاً، حائراً، حزيناً تارة وفرحاً ومرتاحاً ومسالماً تارة أخرى... وفي مجمل هذه الانفعالات لم تخرج شانتال غريب من نمط الواقعية إلى الحلم، بل حافظت على ما لمسته بنفسها عبر هذه التفاعلات، ولم ترسم الشخص التعيس مثلاً حالماً بالسعادة، بل أبقته على حقيقته وعلى أصالته، قبيحاً وشريراً أو جميلاً وخيّراً.

صدقية وردود فعل

هذا التوتر المخيم على لوحات غريب ينمّ عن مدى صدقيتها في رسم ما يحيط بها من عوامل وظروف وتفاعلات، لا لشيء بل لأنها تعشق الإنسان وترصد كل ما يعتمل في نفسه من فعل وردة فعل إزاء ما يحدث في محيطه الصغير والكبير، أي بلده. وتطلق صرخة غضب إزاء الظلم والحروب والأزمات التي تجعل من الشخص درعاً بشرياً أو فأر اختبار للأسلحة ومدى قدرتها على التدمير.

بين الألوان الصارخة والألوان الهادئة نوعاً ما ينساب تأليف اللوحة عند شانتال غريّب ويخترق عمق المساحة البيضاء، من دون أن يترك فيها نقطة واحدة أو زاوية خالية من أي حركة أو حياة... بل يشكل عالماً تضج فيه المعاناة تارة وآفاقاً تنبئ بسلام وخلاص طوراً... فيتناغم معها الشخص الغاضب والشخص الذي وجد راحته النفسية في آن.

التكرار الذي يلاحظه المتلقي في اللوحات، هدفه تبيان أن الحديث بين الناس ما زال هو هو منذ سنوات حول أمور العمل والأوضاع في البلدان العربية وغيرها... إنه ليس تكراراً بقدر ما هو مرآة تعكس واقعاً معيناً لم يتغير وفي حال شهد بعض التغيير فإلى الأكثر سوءاً.

يحمل معرض شانتال غريّب الجديد ملامح من فلسفة وجودية عبر طرح أكثر من علامة استفهام، تبدو واضحة في الرموز والإشارات والمعاني التي تزخر بها اللوحات، وكأن الرسامة التشكيلية تحاول البحث عن أجوبة حول المستقبل انطلاقاً من الحاضر، هذا المستقبل الذي يشوبه القلق والخوف نتيجة حالة اللااستقرار التي تسيطر على العالم اليوم.