لفت محمد كمال نظر شيخ الكتاب، بذكائه الواضح، وسرعة بديهته، فضلا عن هدوئه غير المعتاد لمن هم في مثل عمره، حيث يفضل البقاء صامتا، متأملا في كل ما حوله، كأنه يحمل كاميرا في عينيه، يحاول أن يلتقط بها صورا لكل ما حوله، إلى جانب براعته في الحفظ، وسرعة تعلم الكتابة:

= شاطر يا محمد يا مصري.

Ad

* أنا اسمي محمد كمال يا سيدنا مش محمد المصري.

= أدرك يا فتى أن اسمك محمد كمال... وهل يخفى ابن باشمهندس الري؟ علاوة على ذلك أنت بارع في الحفظ والتجويد، وأيضا خطك منمق ورائع.. فمن الواضح أن "فرخ الوز عوام".

* مش فاهم يا سيدنا يعني إيه؟

= ليس مهما... المهم الآن أن تستعد لأن التابع الذي يرافقك قد حضر.

خصص والد محمد كمال، تابعا يرافق الصغير من "الكتاب" وإليه، في رحلته اليومية، خوفا عليه من الحيوانات المفترسة، التي توجد في كل مكان، بما في ذلك حديقة الفيلا ليلا، حتى أن الأسرة خصصت وقتا من صباح كل يوم للكشف عن آثار أقدام الحيوانات التي تتسلل إلى الحديقة ليلا، ويتبارون في معرفة آثارها وتحديد نوع الحيوان الذي زارهم هذه الليلة، ومع كل زيارة لأحد هذه الحيوانات، كان المهندس محمد الشناوي يشدد على التابع بألا يترك الصغير محمد كمال من يده أو يدعه يغيب عن نظره لحظة واحدة في رحلة الذهاب أو العودة من الكتاب وإليه، غير أنه في هذا اليوم تأخر رغما عنه في الذهاب لإحضاره، فجلس الصغير ينتظره تحت الشمس اللافحة، دون جدوى، فما كان من الصغير إلا أن غافل الشيخ، وقرر أن يقوم برحلة العودة إلى "المستعمرة" بمفرده!

مغامرة في الأدغال

توهم الطفل محمد كمال أنه يسير في الطريق نفسه الذي اعتاد أن يسلكه يوميا بصحبة التابع، غير أنه شاهد فراشة مزركشة الألوان لفتت نظره، فجرى خلفها محاولا الإمساك بها، حتى وجد نفسه وسط واحدة من الغابات المنتشرة، لكنه لم يعبأ، وواصل سيره، في الوقت الذي كان التابع قد وصل فيه إلى الكتاب ولم يجده، فجن جنونه، وراح يجري كأنما يفر من أحد الحيوانات المفترسة، يبحث عنه دون جدوى، حتى لعب القدر دوره، عندما التقط الصغير "قرن شطة" من شجيرة صغيرة في مثل طوله، أغراه لونه الأحمر اللامع، فراح يتذوقه بسبب جوعه، وما إن وضعه في فمه، حتى أطلق صرخة مدوية، وصلت إلى سمع التابع، فأسقط في يده، حيث تأكد أن أحد الحيوانات المفترسة قد التهم الصغير، فجرى تجاه الصوت في حذر، وهو يتوقع ألا يجد شيئا قد تبقى منه، لكنه وجده يبكي وهو يحاول أن يزيل آثار "الشطة" من فمه، فأمسك به ورفعه إلى صدره وجرى به وهو يحاول أن يهدئ من روعه، ويعقد معه اتفاقا، بألا يقول إنه تأخر عليه، حتى لا يقول لوالده إنه تجرأ ودخل الغابة بمفرده.

كانت هذه المرة الثانية التي يقف فيها الطفل محمد كمال على حافة الفقد، الأولى كانت في القاهرة، في حي السيدة زينب، والثانية داخل إحدى الغابات في السودان، غير أنه لم يكن يعبأ بذلك، ولم تحد الواقعتان من خياله الجامح، وحبه للمعرفة واكتشاف كل ما هو مجهول حوله، وهو ما اكتشفه من خلال حبه للرسم، ومحاولة اكتشاف الطبيعة والأشياء عبر رسمها، وفي الوقت نفسه لديه استعداد للتعلم، فحفظ أجزاء عدة من القرآن الكريم، ومن خلاله تعلم اللغة العربية نطقا وكتابة، فضلا عن تعلم اللغة الإنكليزية بإتقان.

قضت الأسرة في السودان عامين، عادت بعدهما إلى مصر في عام 1925، غير أن مهندس الري محمد الشناوي لم يعد إلى القاهرة، بل كانت العودة إلى مدينة المنصورة، التي كانت محطة مهمة، ليست فقط في حياته، بل أيضا في حياة الطفل محمد كمال، لجمال موقعها وطبيعتها الساحرة، خاصة أن الأسرة اختارت حي "توريل" للعيش فيه، ذلك الحي الذي خصص لسكن الطبقة الارستقراطية وأصحاب المهن العليا، من مصريين وأجانب، من مفتشي ري وكبار رجال البوليس، ومديري المصالح الحكومية، لذا كان ينتشر به العديد من الفلل والقصور، فضلا عن حديقة "توريل"، كما يضم الحي أيضا مدارس أبناء الطبقة الراقية، التي اختار المهندس محمد الشناوي إحداها ليلحق بها الصغير محمد كمال، لتبدأ رحلة جديدة في حياته، في مكان تميز بطبيعته الفاتنة وجمال مناظره، ما كان دافعا قويا لتفجير مواهب الطفل الفنية والاجتماعية.

لم يكن محمد كمال طفلا مثله مثل الأطفال في عمره، يميل إلى الألعاب التقليدية، أو الألعاب التي تستخدم العنف، بل يميل إلى الجلوس بمفرده، متأملا جمال الطبيعة والزهور، يهرب من الضجيج، ليرسم منظرا طبيعيا، لكن ذلك لم يمنعه من الانخراط في كل الأنشطة الاجتماعية والرياضية الفنية، التي تقيمها المدرسة، بما في ذلك الانضمام إلى فريق التمثيل والغناء، ليس بهدف تنمية موهبة بعينها، لكن حبا في التعلم واكتشاف كل ما هو جديد، الأمر الذي لفت نظر والده:

= أنا ما عنديش مانع.. لكن الواحد لما يركز في نشاط واحد يقدر يبقى متميز فيه.. مش يوزع مجهوده على كل نشاط شوية.

* بس أنا بحبهم كلهم... بحب الكرة والجمباز والجري... وبحب الرسم والشعر وجماعة الخطابة... وكمان فيه فريق "كورال" بتاع الأغاني، وجماعة التمثيل.

= أغاني وتمثيل... والله عال يا سي محمد، عايز تبقى مغنواتي ولا مشخصاتي؟

* لا يا بابا أنا بحبهم بس.

= والله أنا خايف من آخرة الحب ده إيه يا سي محمد.

* لا يا بابا... حضرتك ما تخافش.

= ماشي يا سي محمد... وفي حد بقى من زمايلك مشترك في كل الأنشطة دي زيك كده؟

* لا كل واحد اختار حاجة واحدة... وفي ولاد اختاروا اتنين بس.

= طب أنا موافق بس بشرط أن الحاجات دي ما تأثرش على دراستك... أنا عايز النمر بتاعتك تكون دايما من الأوائل.

طموح مبكر

لم يترك محمد كمال نشاطا أو مسابقة، إلا واشترك فيه، فما إن ينتهي من مباراة في كرة القدم، أو تدريب "للجمباز"، حتى يسارع بالانضمام إلى بروفات فريق الكورال، أو التمثيل، أو جماعة الفن التشكيلي، والمدهش أنه يظهر براعة في كل مجال يشارك فيه، حتى إنه حصد العديد من "الميداليات" والكؤوس والجوائز، من خلال المسابقات الرياضية والحفلات الفنية، فذاع صيته على مستوى المدرسة، بل وعلى مستوى بقية مدارس المدينة، ليس فقط لتفوقه الرياضي والفني، بل أيضا كما وعد والده بالتفوق الدراسي، ما جعل مدرس اللغة العربية

عبدالعزيز سيد الأهل يتبنى موهبته وتفوقه في اللغة العربية، التي أتقنها نطقا سليما دون أخطاء في قواعد اللغة أو الإملاء، حتى إنه استعان به يوما لقراءة قطعة نثر "للجاحظ" من كتاب المطالعة، أمام تلاميذ الصف الرابع الابتدائي، بينما كان محمد كمال لايزال طالبا في الصف الثاني الابتدائي:

= تعال يا كمال يا ابني.

* نعم يا أفندي.

= امسك هذا الكتاب واقرأ هذه الفقرة من الدرس الذي أمامك... وبصوت مرتفع.

* حاضر يا أفندي: "قال الجاحظ: "الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة ونعم القرين ببلاد الغربة، وهو وعاء مليء علما وليس هناك قرين أحسن من الكتاب، ولا شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد، والكتاب هو الجليس الذي لا يمدحك والصديق الذي لا يذمك، والرفيق الذي لا يملك ولا يخدعك، إذا نظرت فيه أمتعك وشحذ ذهنك وبسط لسانك وجود بيانك وغذى روحك ونمى معلوماتك، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك، وإن قطعت عنه المائدة لم يقطع عنك الفائدة.

ولو لم يكن من فضله عليك إلا حفظه لأوقاتك في ما ينفعك وصونها عما يضرك من فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة ومجالسة من لا خير فيهم، لكان في ذلك على صاحبه أسبغ نعمة وأعظم منة، فالكتاب صديق يقطع أوقات فراغك في مؤانسة تنجيك من الوحدة المملة، كما ينقل إليك أخبار البلاد النائية فتعرف أنباءها كما تعرف أنباء بلدتك".

انتهى محمد كمال من القراءة بلغة سليمة دون خطأ واحد، وبصوت جهوري، وأداء أقرب إلى أسلوب الخطابة، ما زاد من فخر "الأستاذ عبدالعزيز"، فقام بالإثناء عليه أولا وشكره، ثم استدار لتلاميذ الصف الرابع ووبخهم ووجه الإهانات لهم أمام تلميذ الصف الثاني، ولم يكتف بذلك، بل طلب منهم التصفيق لمحمد كمال، فصفق التلاميذ بلا حرارة، فطالبهم بإعادة التصفيق، وعندما لم يعجبه تصفيقهم طالبهم بإعادة ثالثة ورابعة، حتى رضي عن تصفيقهم له، غير أن تلاميذ الصف الرابع فعلوا ذلك على مضض، وهم يتوعدون في ما بينهم من كان سببا في توجيه كل هذه الإهانات لهم، وبالفعل، قاموا جميعهم بانتظاره في فناء المدرسة خلال "الفسحة"، وما إن شاهدوه حتى طالبوه أولا بأن يصفق لهم ويشجعهم، ثم يعتذر لهم، غير أنه رفض الاعتذار، فقاموا جميعا بالالتفاف حوله وأوسعوه ضربا، غير أن ذلك لم يثن محمد عن مواصلة رحلة تفوقه في دراسته، وفي جميع الأنشطة الفنية والرياضية، خاصة في ظل تشجيع الأستاذ عبدالعزيز سيد الأهل له، بعد أن أدرك استعداده للتعلم، فضلا عن حيويته ونشاطه الدائمين.

شعر محمد كمال بأن نشاطه يجب ألا يكون مقصورا على المدرسة، خاصة في ظل مطاردة بعض التلاميذ له، ممن يغارون من تفوقه العلمي والرياضي، ومحاولة حرمانه من المشاركة في بعض الأنشطة، فقرر أن يقيم ناديا خاصا به، يكون هو صاحب القرار فيه، والمتحكم في من يمكن أن يشارك به ممن يختارهم بعناية، لكن كيف له ذلك وهو لايزال لم يتخط الثانية عشرة من عمره؟ فهداه تفكيره إلى فكرة لم تخطر ببال أحد، حتى والديه، خاصة والدته التي كانت تحب أن تناديه باسمه الثاني "كمال":

= مش فاهمة تقصد إيه يا سي كمال؟

* يا مامي أنا مش عايز أضيع وقتي بره البيت.

= دلوقت الرياضة بقت تضييع وقت بره البيت؟

* مش قصدي... لكن أنا عايز أعمل حاجة تبقى بتاعتي أنا... وكمان أقدر أمارس الرياضة براحتي من غير ما اتقيد بوقت المدرسة... خصوصا أن الدراسة فاضل عليها شهر وتنتهي.. وأنا مش عايز أبعد عن الرياضة.

= قصره.. أنت عايز إيه؟

* يعني أنا بأقول إن سطح الفيلا ماحدش بيستخدمه وفيه شوية كراكيب مش محتاجينها... فأنا هاجيب شوية أصحاب ليا وننضف السطح... وهانلعب عليه الرياضة براحتنا..

= أيوا بس أنت عارف بابا.

* من غير حضرتك ما تقولي... مش هانعمل إزعاج لبابا... حضرتك عارفة إني بأحب الهدوء ومش ممكن أعمل إزعاج.

= خلاص يا سي كمال... طيب وعايز مني إيه؟

* أبدا... عاوز بس كام جنيه... علشان اشتري لوازم النادي.

= كام جنيه... ونادي؟!

اقتنعت والدته بالفكرة وقررت مساندته بعد موافقة والده، وقبل أن ينتهي العام الدراسي، كان محمد كمال قد حول "سطح الفيلا" إلى ناد رياضي، يضم بعض قطع الحديد لبناء الجسم، ومتوازيا لألعاب "الجمباز" و"حبلا" لممارسة لعبة "نط الحبل"، وآخر لصنع "حلبة ملاكمة" ومستلزمات "الملاكمة" وكرة قدم، ثم أحضر ورقة كبيرة بعرض باب "سطح الفيلا"، وكتب عليها بخط كبير:

"نادي كمال الشناوي للألعاب الرياضية"

قرر كمال أن يكون الاشتراك الشهري للنادي خمسة قروش، وأن يضم له، ليس فقط كل من يستطيع أن يدفع الاشتراك الشهري، بل من يرضى عن أخلاقه ومستواه العلمي، والأهم أن يعرف أنه لا يسبب إزعاجا، مقابل اللعب بكل الألعاب، فضلا عن إقامة مسابقات في كل أنواع الرياضة يوم الخميس من كل أسبوع، ورغم ما أثارته عبارة "نادي كمال الشناوي" من ضحك والدته، وحرصه على إقامة مسابقات أسبوعية، فإنها قررت أن تكمل مساندتها له للنهاية، حيث اقترحت أن تكون الجوائز التي يحصل عليها الفائزون في المسابقات الأسبوعية، بعض "رقائق الفطائر"، و"الكنافة" التي تصنعها بيديها، ليقوم بتوزيعها على الفائزين أولا، وما يتبقى يتم توزيعه على بقية المشتركين.

صدمة العاصمة

قضى محمد كمال أجمل سنوات عمره بمدينة المنصورة، وبدلا من فرحته مثل والديه بحصوله على الشهادة الابتدائية بتفوق، حزن لأنه سيضطر لأن يغادر المنصورة ويعود إلى "البيت الكبير" بيت العائلة في "شارع خيرت بالسيدة زينب"، ليلتحق بالمدرسة الثانوية، خاصة أن والده قد اقترب من نهاية مدة خدمته بالمنصورة، وتقرر عودته إلى القاهرة، التي استقبلته بالمظاهرات التي خرج فيها الطلاب في عام 1936، ولم يكن محمد كمال أقل وطنية منهم، بل راح يتصدر الصفوف، لقدرته على الخطابة، وكانت النتيجة أن أرسلت إدارة المدرسة خطابا إلى أهله تهدد بفصله من المدرسة بتهمة الشغب والتظاهر، فاضطر جده إلى نقله إلى مدرسة أخرى، كان الاهتمام فيها بالأنشطة بارزا، فبدأت تنمي في داخله هواية الغناء والأنشطة الفنية، حتى إنه شارك في الغناء في إحدى الحفلات المدرسية حضرها وزير المعارف، الذي فوجئ به يصافحه بحرارة ويقول له:

= ستكون مطربا عظيما يا شناوي.

البقية الحلقة المقبلة

مظاهر الحياة الشعبية الجميلة

كانت صدمة محمد كمال أكبر من مجرد ترك المدينة التي عاش فيها الطفولة والصبا، وأصبح له فيها صداقات عديدة، أو نهاية "نادي كمال الشناوي للألعاب الرياضية"، لكن أيضا لأن البون كان واسعا بين المدينة الشاعرية الهادئة، التي تنفس فيها عطر الطبيعة، وجمال حدائق الفاكهة ورائحة أشجار الليمون التي تسري في أنسام الليل، وبين الحي الشعبي الذي يعج بالحركة والضجيج، والصوت المرتفع للباعة الجائلين ليل نهار، الأمر الذي يسبب له إزعاجا شديدا، بعد أن اعتاد الهدوء والسكون.

لم يعد محمد كمال إلى حي السيدة زينب، كما تركه الطفل ذو الثلاث سنوات، بل أصبح فتى على عتبات الشباب، عاد بعد رحلة طويلة قضاها كالسندباد متنقلا بين غابات السودان، وحدائق المنصورة، ورغم حزنه على نهاية مرحلة مهمة في حياته، فإنه سرعان ما وقع في غرام الحي العتيق مسقط رأسه، فأحب كل مظاهر الحياة الشعبية التي لم يتخل عنها أهالي الحي، كما اعتاد أن يراهم منذ طفولته، ورغم هذه المظاهر الشعبية الجميلة التي وقع محمد كمال في غرامها منذ أن رأها، فإنه انزعج بشكل كبير عندما وصل إلى سمعه هذا الصوت المرتفع:

= ألو ألو... أيها السادة، نذيع عليكم الآن خبر تلك القنبلة التي انفجرت مساء أمس في شارع الموسكي بالقاهرة... فلم تكن أيها السادة هذه القنبلة سوى الافتتاح الكبير والخطير لمحلات "عرفة" بالموسكي.. محلات "عرفة" تقدم لكم أرقى تشكيلة من الملابس العصرية... أيها السادة زوروا محلات "عرفة" تجدوا ما يسركم.

لم يعتد محمد كمال مثل هذا الصوت المزعج الذي ينبعث من ذلك الجهاز الجديد "المذياع" الذي لم يعتد عليه رواد المقاهي بعد، خاصة أن صاحب المقهى أداره بصوت مرتفع، بشكل جعل محمد كمال يقفز من سريره ويتجه في سرعة خاطفة إلى المقهى المجاور للبيت:

* مساء الخير.

= يسعدك مساء يا أفندي.

* من فضلك ممكن توطي صوت الراديو شوية.

= أوطي صوته... وأنا اللي كنت فاكرك جاي تطلب أعليه شويه كمان.

* ما هي مش أصول دي يا معلم.

= وانت بسلامتك اللي جاي تعلمني الأصول يا فندي؟

* لازم الجيران يراعوا شعور بعضهم يا معلم.

= وأنا علشان عامل حساب الجيرة مش هاحاسبك يا فندي... اتفضل اشرب حاجة... ولا اتفضل من غير مطرود... وأنا ليا كلام تاني مع الحاج شناوي.

رغم مشاهد الجمال التي استقبلت بها القاهرة محمد كمال، فإن ضجيجها بات يؤرقه، خاصة بعد أن اعتاد الهدوء وجمال الطبيعة، فكان لابد من حل يتأقلم به مع عالمه الجديد.

العودة إلى مسقط الرأس

مع عودة كمال الشناوي إلى مسقط رأسه في حي السيدة زينب العريق بالقاهرة، كان أكثر ما لفت نظره وأثار إعجابه سلوكيات "أبناء البلد" وعاداتهم، حيث يقومون "برش" المياه أمام البيوت والمحال عصر كل يوم اتقاء حرارة الصيف، والمقاهي الشعبية التي يتجمع فيها الرجال بعد غروب الشمس للعب الدومينو وطاولة الزهر، ثم التجمع حول صوت "عازف الربابة" مساء كل ليلة، وهو يروي واحدة من حكايات السير الشعبية، أو فنان يجلس محتضنا "عوده" ليقدم بعض ما لديه من فن، وصوت الباعة الجائلين وهم ينادون على بضائعهم، ورنين الأواني النحاسية لباعة "العرقسوس"، وباعة "الترمس" وهم ينادون عليه، حيث رصت فوق العربة عدد من "القلل" وقد تلألأت فوقها حبات المياه في الصيف القائظ، و"الترام" الذي يتهادى بأزيزه المزعج، والأولاد يتسابقون لتسلقه وهم يهربون من "الكمساري"، غير أن أكثر ما لفت نظر محمد كمال، ذلك الحرص الكبير من سكان الحي، مثل بقية سكان أحياء القاهرة، على النظافة، أمام بيوتهم وفي شوارعهم، فضلا عن ذلك المنظر الذي جذبه لمجموعة من الفتيات الشعبيات اللواتي يتحركن "بخفة ودلع" وهن يرتدين "الملاءة اللف والمنديل أبو أوية" في مشهد رائع، يصلح لأن يكون لوحة تشكيلية بديعة.