توقفت سيارة حمراء فارهة أمام مبنى إحدى الشركات الاستثمارية الكبرى في مدينة القاهرة، لحظات وهبطت منها فتاة جميلة شقراء ممشوقة القوام، وأسرع كل أفراد أمن الشركة بتحيتها، وساروا خلفها حتى استقلت المصعد إلى الطابق الثاني حيث مكتب والدها رجل الأعمال الثري وصاحب الشركة، وفي مكتب السكرتارية الملحق بمكتب صاحب الشركة، قفزت السكرتيرة بمجرد دخول الفتاة الشقراء، وأسرعت ترحب بالأنسة «نادين» ابنة صاحب الشركة، ردت التحية وفتحت باب مكتب والدها، وعلى شفتيها ابتسامة عريضة.

كان رجل الأعمال الثري «فهمي بك» يتحدث عبر هاتفه الجوال مع أحد عملائه، انفرجت أسارير الأب، وأنهى المكالمة بسرعة، وراح يحتضن ابنته التي طبعت قبلة حانية على خده، فقال الأب لابنته الجميلة باسماً:

Ad

- «أخيراً رضيتِ تزوريني في الشركة... بقى لي سنين أتحايل عليكِ تزوريني وأنتِ ترفضي».

ردت الابنة الجميلة في خجل:

* «أصل الموضوع خطير. يعني بصراحة كده موضوع لا يحتمل التأخير».

ورد الأب بالابتسامة نفسها:

- «للدرجة دي. طيب يا ستي... اتفضلي قولي طلباتك إيه».

جلست «نادين» على المقعد المقابل لمكتب والدها، واكتسى وجهها بحمرة الخجل، وقالت بصعوبة وفي تردد:

* «أصل فيه واحد عاوز يزورنا في البيت. ممكن يا أحلى بابا في الدنيا؟».

قفز قلب «فهمي بك» بين ضلوعه من الفرحة. أخيراً، عثرت ابنته الكبرى، خريجة كلية الآثار على فارس أحلامها، بعدما ظلت لسنوات ترفض كل من تقدم لطلب يدها للزواج رغم جمالها وثراء والداها. ارتسمت ابتسامة على وجه الأب وقال:

- «ويا ترى مين سعيد الحظ ده اللي عاوز يزورنا في البيت... وإزاي قدر البطل ده يخطف قلب أجمل بنت في الدنيا. رغم أن كثيرا قبله فشلوا؟».

ردّت «نادين» في فرحة ممزوجة بالخجل:

* «هو بطل فعلاً يا بابا... بطل سباحة... وحسيت أنه الإنسان الوحيد اللي هيقدر يسعدني. يعني بصراحة كده أنا شايفة فيه الشخص المناسب».

وراح يرمق ابنته بنظرات متفحصة، وهي تتكلم عن حبيبها بهذه السعادة وقال:

- طيب خليه يشرفنا بكرة الساعة الثامنة. ودلوقتي سبيني بقى أخلص شغلي».

وقفت «نادين» وودعت والدها الحبيب بقبلة أخرى على خده... وانطلقت تغادر مقر الشركة عائدة إلى البيت، والفرحة تملأ قلبها وعلاماتها تتراقص فوق ملامح وجهها الجميل.

الغرق في الحب

كانت دقات قلب الفتاة الجميلة «نادين» أسرع من سيارتها الحمراء الفارهة، وعبر هاتفها الجوال اتصلت بحبيب القلب «محمود»، وراحت تصرخ من الفرحة كالأطفال وتقول في سعادة غامرة:

* «حبيبي بابا وافق. آه والله ومستنيك بكرة الساعة 8 بالليل. طبعاً فرحانة جدًا هأطير من الفرحة. أخيراً حلمنا هيتحقق».

انتهت المكالمة سريعاً بين الحبيبين، وقادت «نادين» سيارتها بسرعة كبيرة، حتى وصلت إلى «الفيللا» التي تقيم فيها مع أسرتها. بمجرد دخولها من الباب احتضنت والدتها وجدتها، اللتين جلستا تستفسران من الفتاة عن سر سعادتها الغامرة فأجابتهما قائلة:

* «بكرة الساعة 8 بالليل... الدنيا هتبقى أحلى». تركتهما وصعدت إلى غرفتها بالدور العلوي، انفردت بنفسها في سعادة بالغة، تعد الساعات والدقائق انتظاراً لموعد حضور عريسها. لم تعرف طعماً للنوم في تلك الليلة، ظلت ساهرة مع والدتها وجدتها تحكي لهما عن حبيبها «محمود»، بطل السباحة الذي غرقت في غرامه من دون سابق إنذار. تحدثت عن أخلاقه وطباعه وحبه الكبير لها ورقته وحنانه وخوفه عليها. كانت تتحدث عن «محمود»، وكأنها تتحدث عن بطل أسطوري من أبطال الحواديت.

في اليوم التالي وفي الموعد المحدد، دق جرس باب الفيللا التي يقيم فيها رجل الأعمال الثري «فهمي بك»، وأسرته المكونة من زوجته ووالدتها وابنه المهندس الشاب وابنته الكبرى «نادين». كان أفراد الأسرة كلهم في استقبال العريس، أو فارس الأحلام القادم على حصانه الأبيض ليخطف ابنتهم «نادين» إلى السعادة الأبدية.

انفتح الباب ودخل العريس، وأسقط في يد كل أفراد الأسرة بمجرد أن شاهدوا الضيف القادم. كان فارس الأحلام أسمر البشرة، يرتدي ملابس تدل على تواضع حاله، وراحت عيناه الزائغتان تتجولان في دهشة وتستعرضان التحف الثمينة المتناثرة في أرجاء الفيللا كافة.

انقبض قلب «فهمي بك» بمجرد رؤيته العريس. لم يكن على حجم توقعاته، مد يده ليصافحه على مضض، ودعاه للجلوس، بإشارة من عينيه دعا كل أفراد أسرته لتركه بمفرده مع الضيف ليتحدثا قليلا، وبدأ الحديث بين رجل الأعمال الثري والعريس، سأله الأب في خشونة:

- اسم حضرتك إيه؟

* محمود يا باشا.

- وبتشتغل إيه يا أخ محمود؟

* مدرب سباحة في النادي.

- والدك بيشتغل إيه؟

* الوالد تعيش أنت.

- والست الوالدة؟

* عايشة الحمد لله.

- ساكنين فين يا أخ محمود؟

لم يرد «محمود» ظل صامتا للحظات ثم قال:

* في إمبابة.

وقال الأب في ضيق:

- طبعاً أنت شايف المستوى اللي نادين عايشة فيه. يا ترى هتقدر تعيش بنتي في نفس المستوى ده أو حتى أقل منه شوية؟

لم يملك «محمود» الإجابة المناسبة. كان السؤال صعباً يحمل كل معاني الرفض لهذه الزيجة غير المتكافئة. استأذن العريس في الانصراف ورحب الأب بمغادرة العريس المرفوض بشكل نهائي وبات.

لم تنم «نادين» ولا أحد من أفراد أسرتها في تلك الليلة، كان الشجار بين الجميع و«نادين» على أشده، قال الأب لابنته غاضبا:

- أنتِ أكيد اتجننتي. ده اللي أنتِ اختارتيه من بين كل الشبان؟

ردت الابنة:

* أيوة يا بابا.

قاطعها الأب منفعلاً:

- أيوة في عينك بنت قليلة الأدب.

وتدخلت الأم قائلة:

* بقى ترفضي ولاد السفراء والوزراء وتقبلي تتجوزي ده. أنتِ جرى لمخك حاجة؟

وقالت الجدة:

* لا يا نادين يا حبيبتي ده ما ينفعكيش خالص.

وأخيراً قال شقيقها المهندس الشاب:

* واضح إنك مش عارفة قيمة نفسك يا نادين.

ظلت «نادين» صامتة لا ترد على أحد، وبمجرد أن أدلى كل واحد في الأسرة بدلوه، قالت الفتاة الجميلة في عصبية:

* خلاص كل واحد فيكم قال رأيه. أنا بقى بأحب محمود ومش هتجوز غيره.

وغلت الدماء في عروق الأب الذي صرخ في ابنته قائلا: «على جثتي».

كانت ليلة ليلاء وعاصفة بحق، تكهرب جو المنزل، وأخذ كل فرد جانبه، لكن «نادين» التي ورثت العناد عن والدها، ركبت رأسها، أسرعت إلى غرفة نومها باكية تلاحقها تهديدات أخرى خرجت على لسان والدها، الذي ظل يصرخ بأعلى صوته قائلاً:

- «ما فيش خروج من البيت... ومافيش مرواح نوادي تاني أبداً. أنا هأربيكي من أول وجديد».

هروب

في الصباح الباكر، استيقظ كل أفراد الأسرة على مفاجأة مذهلة: «نادين» حزمت حقائبها وهربت، تركت سيارتها الحمراء الفارهة في أحد الشوارع الرئيسة بحي «إمبابة» الشعبي، بعدما فشلت في الدخول بها إلى الحارة الضيقة. حملت الفتاة الشقراء حقيبة كبيرة تحتوي على ملابسها، وسارت في الحارة الضيقة، ومنها إلى زقاق أضيق، وسط مطاردة عيون سكان المنطقة التي تتابعها في استغراب، فمنظرها وملابسها الفخمة لا تتفق مع الحي الشعبي، حتى وصلت إلى بيت شبه متهالك ودخلته.

في هذا البيت المتواضع المتهالك والمكون من طابقين استقبل «محمود» محبوبته «نادين» بفرحة عارمة، والدته أطلقت زغرودة مدوية لفت المكان كله، وراحت تحتضن «نادين» وتقبلها بحماسة شديدة.

جارات الست أم «محمود» سألن عن سر الزغرودة فأطلت عليهن أم «محمود» من الشرفة، وأعلنت عليهن نبأ وصول زوجة ابنها المستقبلية. ردت الجارات بإطلاق المزيد من الزغاريد. كانت «نادين» تقف مذهولة من الاستقبال الحافل لوصولها. أما «محمود» حبيبها فلم يضيع الوقت. انطلق يحضر المأذون واثنين من الشهود، وتم عقد قرانهما بعد نصف ساعة فقط من قدومها.

اصطحب «محمود» زوجته «نادين» إلى الطابق العلوي من البيت المتهالك، إيذانا ببدء شهر العسل. اعتذر الزوج لزوجته لأن إمكاناته المادية لا تسمح له بأن يقيم لها أكبر فرح في مصر، أو أن يؤثث لها عش زوجية يليق بقدرها، وكانت كلماته كالبلسم الذي داوى كل جراحها، وعذاب المواجهة العنيفة التي عاشتها بسبب رفض والدها هذه الزيجة.

ربما يتصور معظم الناس أن مثل هذه الزيجات محكوم عليها بالفشل، ربما يعتقد كثيرون أن «نادين» بمرور الأيام لن تتحمل هذه الحياة الخشنة الفقيرة، ربما كانت هذه هي القاعدة. ولكن كما يقولون: «لكل قاعدة استثناء»، و»نادين» بنت الأكابر كانت هذا الاستثناء، فرغم من اختلاف الطباع والعادات فإنها لم تتبرم من حياتها الجديدة، كانت سعادتها وفرحتها مع زوجها «محمود» الشاب الأسمر الفقير تزداد بمرور الأيام.

أما علاقتها بحماتها فكانت كالسمن على عسل. أحست «نادين» أن الله عوضها بأم ثانية بدلا من أمها، وبالفعل كانت أم «محمود» ست طيبة جداً، ورغم رقة حالها كانت تملك قدراً كبيراً من الحكمة فكان أول ما قالته لـ «نادين» عقب عقد قرانها على ابنها:

«فيه كلمة يا نادين يا بنتي عاوزة أقولها لك. أبوكِ البيه الكبير مش هيسكت على جوازك من ابني بدون رضاه. لازم تعرفي أنك وجوزك هتواجهوا حرباً شرسة والزوجة الأصيلة هي اللي تقف قصاد الدنيا كلها وتحمي بيتها وجوزها. وأنتِ أصيلة وأنا عارفة أنك قدها وقدود. صحيح ما كنتش أتمنى يكون ابني سبب العداء بينك وبين أهلك، لكن خلاص اللي حصل حصل ولازم نبص لقدام».

وصمتت أم «محمود» للحظات ثم استطردت قائلة:

«شوفي يا بنتي. أوعي تعتبري نفسك ضيفة بينا هنا. أنتِ صاحبة البيت وأنا وابني اللي ضيوف عندك. إحنا صحيح ناس فقراء لكن نعرف الأصول كويس. وقبل كل شيء نعرف ربنا وبنخافه. وتأكدي لو ابني زعلك في يوم أن لك أم تأخد لك حقك... أنا أمك مش أمه».

بكت «نادين» واحتضنت حماتها بقوة بعد أن منحتها صك القوة والعيش بكرامة في كنف زوجها، الذي ضحت لأجله بثروة والدها واستقرارها مع أسرتها.

ثورة أب

أيام عدة و«فهمي بك» لا يصدق ما جرى. كاد هروب ابنته أن يقضي على حياته، وعندما فرغ صبر رجل الأعمال هرول «فهمي بك» يبحث عن ابنته الهاربة، وكانت البداية من النادي الرياضي الشهير، حيث بدأ بالبحث عن المدعو «محمود» مدرب السباحة الذي سلب عقل ابنته. سأل عنه الجميع لتتوالى المفاجآت، «محمود» ليس مدربا للسباحة، وإنما عامل من عمال النظافة في النادي، ووالدته عاملة بسيطة في النادي نفسه مهمتها تنظيف حمامات السيدات. حاول العثور على أي منهما لكنه علم أنهما لم يحضرا إلى النادي هذا اليوم.

من إدارة النادي حصل «فهمي بك» على عنوان «محمود «، وأسرع إلى حي «إمبابة»، ولكنه في الطريق تلقى المفاجأة الأخيرة والقاصمة. اتصلت به زوجته وأخبرته وهي شبه منهارة ودموعها الحارقة تؤثر على صوتها أن ابنتهما «نادين» اتصلت بها، وقالت لها إنها تزوجت من «محمود».

جن جنون رجل الأعمال صاحب الملايين، أسرع إلى قسم شرطة إمبابة وقدم بلاغا يفيد اختطاف ابنته «نادين»، وزواجها من «محمود» دون ولي شرعي مما يبطل عقد الزواج. أحيلت القضية إلى محكمة الأسرة ووقف رجل الأعمال يسرد مأساته التي تسببت فيها ابنته وبكى الرجل مطالبا بإلغاء عقد زواج ابنته خريجة كلية الآثار من عامل النظافة لعدم التكافؤ، خصوصاً أن التحريات التي أجرتها أجهزة الأمن أكدت أن «محمود» كان متزوجاً من سيدة أخرى قبل زواجه من ابنة رجل الأعمال، وله منها طفلان أكبرهما عمره عشر سنوات.

وتقف «نادين» في المحكمة أمام والدها تدافع عن زوجها «محمود»، وتؤكد أنها تعلم عن زوجها كل صغيرة وكبيرة، وأنه تعلم أنه يعمل كعامل نظافة في النادي العريق، وأنه تزوج سابقاً وأن لديه طفلين، قالت إنه صارحها بكل ظروفه ولم يخبئ عنها شيئاً لذلك تمسكت به، وأنها تعيش حياة سعيدة معه، ودعت والدها للتنازل عن دعواه ومباركة زواجها... وتقضي المحكمة برفض دعوى الأب الذي عاد إلى فيللته ليجد نفسه محاصراً برجال الشرطة للتحقيق معه في كثير من البلاغات والشكاوى تلقتها الجهات الرقابية من «محمود» زوج ابنته، لتتحول حياة «فهمي بك» إلى جحيم لا يطاق، ويبدأ رحلة أخرى لإثبات براءته، وإن هذه البلاغات والشكاوى التي قدمها زوج ابنته مجرد بلاغات وشكاوى كيدية.

نهاية فصول المأساة جاءت في اليوم نفسه الذي أثبت فيه «فهمي بك» براءته من التهم الموجهة إليه في البلاغات والشكاوى الكيدية، حيث استلم رجل الأعمال رسالة من مجهول يقول فيها: «ابتعد عن طريقي... ثروتك ونفوذك لن ينقذوك مني إذا حاولت ملاحقتي ثانية. وقد أعذر من أنذر»، وبالطبع لم يكن صاحب الرسالة المجهول مجهولاً لرجل الأعمال، الذي قرر أن يواصل الحياة من دون ابنته.