عندما يعيش الإنسان في عالم افتراضي فإنه يُشكّله على هواه، وحسب رغباته، وحالته النفسية، وأوهامه، وتصوراته الخيالية التي لا تأخذ في الاعتبار ما يجري من وقائع وأحداث على أرض الواقع. إن القرارات السليمة لا تُبنى على افتراضات خيالية وأوهام ومعطيات غير واقعية، لذا فمن الخطأ تصوير واقعنا السياسي وكأن لدينا نظاما ديمقراطيا، وتنظيمات سياسية، ومؤسسات دستورية، في حين أن الواقع مختلف عن ذلك تماماً، كيف؟

النظام الديمقراطي له مقومات محددة باتت معروفة للجميع من ضمنها التعددية، وتداول السلطة التنفيذية، وفصل السلطات، والتنظيمات السياسية الوطنية، والحريات، والمواطنة الدستورية المتساوية في الحقوق والواجبات، وهي مقومات لازمة في حال غيابها لا يمكن أن يكون النظام ديمقراطياً، والشكل هنا لا يغني، بأي حال من الأحوال، عن المضمون.

Ad

أما التنظيمات السياسية الحقيقية فإنه يشترط أن تكون تنظيمات مدنيّة ديمقراطية تُقدّم برامج وطنية عامة تبين فيها كيفية معالجة المشاكل العامة في المجتمع، وتطرح بديلها التنموي، لا جماعات طائفية وفئوية، كما هو الواقع حالياً، ترفع شعارات عاطفية وتطرح قضايا هامشية تُفتت المجتمع، ولها علاقة بهموم عامة الناس وقضاياهم الوطنية والمعيشية.

أضف إلى ذلك أن النظام الديمقراطي الحقيقي يتطلب وجود نظام انتخابي عادل يتم التوافق عليه وطنياً بحيث لا يُستثني أحد، ولا ينفرد في صياغته وإقراره طرف من أطراف المعادلة السياسية وبالذات الحكومة التي تكون عادة، في الأنظمة البرلمانية، ممثلة للأغلبية البرلمانية التي يختارها المواطنون كافة بإرادتهم الحُرّة بناء على النظام الانتخابي الديمقراطي والعادل.

ومجلس الأمة أو مجلس الشعب في الوضع الديمقراطي السليم هو مؤسسة دستورية حقيقية، وسلطة عامة مستقلة بالكامل عن الحكومة كي تستطيع مراقبة أعمالها وطريقة رسمها وتنفيذها للسياسات والبرامج العامة، فضلاً عن القيام بسنّ التشريعات والقوانين العامة التي تُنظّم المجتمع، وتصون الحريات، وتحفظ حقوق المواطنين كافة باعتبارهم مواطنين دستوريين متساوين في الحقوق والواجبات.

والآن لو طبقنا ما سبق على واقعنا، فسنجد أننا ما زلنا بعيدين عن أن يكون لدينا نظام ديمقراطي حقيقي وذلك لأسباب عدة، تطرقنا لها من قبل، ومن ضمنها ما ورد من تناقض في بعض النصوص الدستورية التي كان من المفترض تنقيحها بعد مرور خمسة أعوام على إصدار الدستور لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، ولكن ذلك لم يحصل، بل حصل تراجع ديمقراطي عام.

وبالنسبة إلى وجود تنظيمات سياسية فهو مجرد افتراض أو تسميات إعلامية، فالتنظيمات غير مُشهرة ومنظمة على أسس دستورية، وليس هناك تعددية وتداول للسلطة التنفيذية، وبالتالي لا يمكن تسمية ما هو موجود في الواقع بالتنظيمات السياسية الحقيقية. معظم ما يُسمى «قوى أو تنظيمات سياسية» تتصدر حالياً المشهد السياسي هي إما جماعات طائفية أو قبلية أو فئوية يفترض منعها من ممارسة العمل السياسي لو كان لدينا وضع مدني ديمقراطية سليم، أو أنها مجرد «يافطات» لجماعات مصلحية «جماعات ضغط» لا ينطبق عليها مفهوم «التنظيم أو الحزب السياسي»، وفي جميع الأحوال فمن غير المعروف ما هو عدد أعضاء ما يُسمى «الجماعات والقوى السياسية»، أو برامجها وطرق تمويلها.

من هذا المنطلق تأتي أهمية مشروع الإصلاح السياسي-الديمقراطي الجذري من أجل دولة دستورية ديمقراطية كي لا نظل ندور في حلقة مُفرغة.