بقدر لهفتنا على لحظات نستعجل وصولها، واحتراقنا بنار الانتظار والترقب، يبقى الزمن يسير بخطوه المُتهادي دون الالتفات إلى لهفة أو تحرّق أو إهمال. شهر رمضان كأي وقت في دولاب الزمن، يهلّ بالرغم من خصوصيته في وقته وآنه. لا شيء يميّزه عن أي شهر أو يوم آخر إلا أنه شهر عبادة بالنسبة للمسلمين. لذا فمن يعيش في دولة غير إسلامية سيحتفل برمضان وصومه وحده، وسيدرك كم هو غريب رمضان ومتوار عن كل بهرجة اللحظة وملذاتها. رمضان يأتي كل عام والزمن من حوله في تجدد وتغيّر وكذا الإنسان في جوهره ومظهره. طغت الماديات على حضور ما سواها في رمضان، واستطاعت بشكل لافت أن تبعد الناس عن روح رمضان الأطهر وتنأى بهم في ترف اللهو والاستهلاك المتوحش.
صار رمضان موسماً لكل بيع وشراء، وصار مناسبة للتظاهر في الملبس والمأكل، وصار وصل طرب وسهر. ملأت المسلسلات التلفزيونية جيوب وأوقات رمضان، وأكثر منها المعارض ومناسبات الحفلات، وتطبّعت أجيال من أبنائنا على السهر في رمضان، واللبس في رمضان، وتجمعات الترف الزائد فيه. وشيئاً فشيئاً انحرف رمضان كثيراً عن روحه ومحتواه وأهدافه، وصار يأتي غريباً ويرحل غريباً. صحيح أننا نصومه، وصحيح أيضاً أننا نصلي، لكن الصوم صوم الروح قبل أن يكون صوم الجسد، والصلاة خشوع وتأمل قبل أن تكون حركات جسد في قيامه وقعوده.الصحافة العربية أيضاً، الورقية والإلكترونية، اعتادت أن تحتفل برمضان بكمٍّ كبير من الموضوعات والقصص والمقابلات. تزيد وتتضخم صفحات الجرائد، وتمتلئ بالمواضيع إلى حد التخمة! وما أكثر ما دار بخلدي السؤال: هل هناك من يقرأ كل هذا في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، وفي زمن "تويتر" حيث القراء بالكاد يحتملون قراءة 140 حرفاً؟ بل إنني أتساءل بشكل مختلف حين أقول: أليس الأجدر برمضان أن نتقشف فيما نكتب؟ وأتمنى لو جاءت الجريدة بأقل عدد من الصفحات. ففي شهر العبادة والتعبد ربما كان الأجدر أن نقدم للقارئ ما قل ودل، وأن نأتي بجديد مختلف.ما يلفت نظري في رمضان هو جنون المسلسلات التلفزيونية، وفي الآن نفسه امتناع السينما العربية عن أي مشاركة أو حضور. جمع كبير من الأمم تناولت مناسباتها الدينية لتقدمها بثوب السينما الأجمل، ولتصل بها إلى جميع شعوب الأرض. وليس أدلّ على ذلك من العدد الكبير من الأفلام التي قدمت بمناسبة أعياد رأس السنة الميلادية المسيحية. لكن، لا أذكر أن مخرجاً عربياً تناول عالم شهر رمضان وقدمه إلى جمهور المشاهدين المسلمين وغير المسلمين بشكل لافت يقول شيئاً عن عالم الشهر الروحاني، ويعيد شيئاً من مناسبات إسلامية ارتبطت بالشهر. السينما اليوم لغة العالم، وما أحوجنا- نحن المسلمين- إليها. فعلى طول وعرض العالم يتم تشويه روح الإسلام ليل نهار، وعلى طول وعرض العالم تتم الإساءة لجميع المسلمين، بسبب أفعال العنف والتوحش التي يقوم بها البعض ممن ينتسب إلى الإسلام وينسب فعله الشنيع إليه.لا أظن أن عبادة دينية إسلامية تكتنز بمفاهيمها الروحانية الصرفة، وتستحق الوقوف أمامها كشهر رمضان. فهي عبادة متفردة، عبادة خالصة لوجه الله، عبادة يتساوى فيها الغني والفقير. عبادة تقول شيئاً لروح الإنسان، وشيئاً لصحته. وقد بات جلياً أن الطب الحديث بات ينادي بشيء من الصوم، وبات متيقناً من أن الصوم مدة شهر كفيل بطرد سموم الجسد المتراكمة عبر عام كامل.في ظل عولمة ثقافية، وتمويلات مالية حاضرة، وعمل المنتج المنفذ، وسباقات التلفزيونات على كل ما هو جديد ولافت، مؤكد أن شهر رمضان يستحق من يلتفت إليه، ويستحق أكثر أن نعامله بما يستحق من إجلال وخشوع وتقدير.
توابل - ثقافات
رمضان الحضور والغياب!
08-06-2016