مثل كل صباح، توافد موظفو إحدى كبرى شركات قطاع الأعمال على مكان عملهم في الثامنة والنصف صباحاً في وسط العاصمة المصرية، القاهرة، دقائق معدودة جلس فيها كل موظف خلف مكتبه باستثناء مكتب واحد ظل شاغراً داخل إحدى غرف الشركة.

قال أحد الموظفين لزميله وهو يشير إلى المكتب الشاغر:

Ad

- هو الباشا لسه ما شرفش؟

رد الزميل متهكما:

* ما أنت قولتها... ده باشا يا عم!

وقال موظف ثالث ساخراً:

** الباشا بيجي الساعة 11... الله يكون في عونه!

أضافت زميلة رابعة وهي تكتم ضحكاتها:

-متغاظين منه ليه... الراجل بيتعب طول الليل!

ضحك الجميع إلا أحدث الوجوه في الشركة، الموظفة الشابة «جميلة»، التي أبدت امتعاضها من تهكمات زملائها على زميلهم صاحب المكتب الشاغر.

الشخص المقصود بهذه التهكمات، كان الموظف الشاب نادر المعروف بمغامراته النسائية المتعددة، والتي أصبحت مادة خصبة يتناولها الزملاء في الشركة كل يوم. فالمعلومات المتوافرة لهم عنه أنه شاب في بداية الثلاثينات من العمر، تعلم في كبرى مدارس اللغات، وتخرج في كلية التجارة. كذلك يقيم بمفرده بعد وفاة والديه في شقة كبيرة في حي «غاردن سيتي» الراقي في وسط القاهرة، يملك سيارة حديثة ولا يعمل لأجل المال، فقد ترك والده ثروة محترمة، ولكنه التحق بهذه الوظيفة حتى لا يحمل لقب «عاطل»، وهو يرفض الزواج ويفضل حياة العزوبية بكل ما فيها من لهو وسهر وعبث.

في البداية، لم تكن «جميلة» تهتم بسماع أي شيء عن مغامرات زميلها «نادر» النسائية، ولكن، يوماً وراء الآخر بدأت تشعر بالغيرة عندما تسمع تلك الأحاديث. لم تجد سببا لغيرتها المفاجئة سوى أنها ربما تكون سقطت في غرام هذا الشاب الوسيم، خصوصاً أنه كان يعاملها بلطف، وكان بين الحين والآخر يرمقها بنظرات حانية، ويتحدث إليها في عذوبة أذابت الجليد من فوق قلبها.

خجل وغيرة

في تمام الحادية عشرة صباحاً، وصل «نادر» إلى مكتبه بالشركة. ألقى تحية الصباح على زملائه فردوها عليه إلا «جميلة»، تظاهرت بانشغالها الشديد في العمل، ولكنها في حقيقة الأمر كانت غاضبة منه لأن سيرته ملوثة بمغامرات عاطفية لا تعد ولا تحصى. أحس «نادر» بالتغيير الكبير الذي طرأ على زميلته الجديدة تجاهه، حاول أن يعرف سر غضبها، ولكن قبل أن يسألها قال له أحد الزملاء:

- «شكلك ما عرفتش تنام كويس إمبارح».

فهم «نادر» مغزى الكلام فابتسم، وقبل أن يجيب عاجله زميل آخر قائلاً:

* «نفسي أتعب نص تعبك يا أخي».

وضحك الجميع إلا «جميلة»، التي اكفهر وجهها، وتظاهرت بالاندماج في عملها أكثر وأكثر، وقالت إحدى الموظفات:

- «يا ساتر على الحقد اللي في قلوبكم. روح يا نادر ربنا يكتر من أمثالك».

وتعالت الضحكات تلف المكان كله، ولكن الموظفة الشابة لم تتحمل سماع ما هو أكثر. تملكها الحياء إزاء الحديث الذي بدأ يأخد طابعاً جنسياً، فهبت من مكانها في حدة، وانطلقت تغادر الغرفة والدماء تغلي في عروقها وأعصابها تحترق.

لم يكن تصرّف «جميلة» يعني سوى أنها تغار بشدة على «نادر»، والتقط الموظف الوسيم الرسالة وفهم فحواها. أسرع وراء زميلته استوقفها في الممر الرئيس للشركة، سألها عن سر غضبها، فحاولت الإفلات بإجابتها، ولكنه حاصرها فالتزمت الصمت، ونظرات الغضب تطل من عينيها الواسعتين. لم يتركها «نادر» حتى باغتها قائلا:

* ممكن أخد ميعاد من بابا... عاوز أزوركم في البيت.

انسحبت ثورة «جميلة» بسرعة، خمد بركان الغضب الذي كان يغلي داخلها بدافع الحب، فهمت ما يقصده، ولكنها تدللت وتظاهرت بالدهشة وقالت وهي تبتلع ريقها خجلا:

- عاوز تقابل بابا ليه؟

- عاوز أطلب أيدك منه.

لم تصدق ما سمعته. رقص قلبها بين ضلوعها من الفرحة. عادت يومها إلى بيتها، وقدماها لا تكادان تلمسان الأرض. أحست أنها تكاد أن تطير من السعادة، بعدما أصبحت على بعد خطوات من تحقيق الحلم والزواج بالشاب الذي حلمت به كثيراً.

بعد أسبوع كان «نادر» يجلس مع والد «جميلة»، الأب كان واضحاً وصريحاً مع الموظف الشاب، قال له:

* «شوف يا نادر يا ابني... إحنا ناس على قد حالنا... وما عندناش أية إمكانات مادية لا لفرش شقة ولا لأية مصاريف تانية. عاجبك على كده أهلاً وسهلاً... مش عاجبك يبقى تدور على نصيبك في مكان تاني».

رد «نادر» باسماً:

- «يا عمي أنا شاري بنتك جميلة. ومش عاوزها إلا بالفستان اللي عليها. الحمد لله أنا ميسور الحال وكل اللي تطلبوه أنا سداد».

* «يبقى على خيرة الله يا ابني نقرأ الفاتحة... يا جميلة هاتي الشربات».

أمسك «نادر» بيد والد «جميلة»، وانطلقت الزغاريد في البيت المتواضع معلنة خطوبة «نادر» و»جميلة». غادر العريس بيت خطيبته، فطلب الوالد من ابنته الكبرى أن يتحدثا قليلا على انفراد.

علت علامات الدهشة والاستغراب قسمات وجه الابنة، التي كانت في قمة فرحتها بالخطوبة، جلست أمام والدها الذي بدأ كلماته قائلا:

* «شوفي يا جميلة يا بنتي... اسمعي كلامي ده كويس وحطيه حلقة في ودنك. صحيح أنا وافقت على خطوبتك لنادر علشان حسيت إنك عاوزة تتجوزيه... لكن لو عاوزة رأيي أنا مش مرتاح للشاب ده».

مفاجأة من العيار الثقيل وقعت على مسمعي الابنة، ضيعت فرحتها سريعاً، انقبض قلبها وسألت والدها في لهفة ممزوجة بالقلق والخوف:

- هو حصل حاجة يا بابا.؟ أنت عرفت حاجة عن نادر أنا مش عارفاها؟

صمت الأب قليلاً ثم استطرد قائلاً:

* أنا سألت على نادر طبعاً. أومال فاكرة إني هأرميكِ كده لأول واحد يطلب إيدك. من ناحية الأصل هو ابن أصول، لكن من ناحية الأخلاق فأخلاقه زي الزفت».

تأكدت «جميلة» أن والدها سأل عن خطيبها في الشركة حيث يعملان، ومن البعض عرف تاريخ «نادر» وعلاقاته ومغامراته النسائية المتعددة. حاولت أن ترد مدافعة عن خطيبها، ولكن الأب بإشارة من يده استوقفها، وقال ناصحاً:

* أنا عارف أنتِ عاوزة تقولى إيه. عارف أنه شاب ولازم يكون له هفوات لكن مش ده اللي أنا عاوز أقوله يا بنتي. نادر مش مننا... مش من طبقتنا. ده شاب مرفه فرحان بلعبة هيرميها بعد فترة. أنا مش هأبقى مطمن عليكِ وأنتِ معاه. نوعية الناس دي هتتعامل معاكِ على حسب اللي في جيبك وعلى قدر ثروتك. الشاب ده هيتعامل معاكِ بتعال بمجرد نار الحب ما تنتهي جواه. وأنا مش عاوز أظلمك ولا أقلل من قيمتك قدام أي حد حتى لو كان جوزك».

كانت «جميلة» تستمع إلى نصيحة والدها باهتمام بالغ، ورغم أن اللقاء غير المتوقع بينها وبين والدها انتهى سريعاً، فإن لم تنم ليلتها. ظلت ساهرة تفكر في كلمات والدها، التي تحمل بين طياتها خبرة سنين طويلة في التعامل مع أنواع كثيرة من البشر، الغني والفقير، الوزير والغفير.

لم تنكر «جميلة» إعجابها برأي والدها الرجل البسيط، ولكنها كانت في حيرة من أمرها فماذا ستفعل بعد هذا الكلام مع خطيبها «نادر»؟!

شرطان والتزام

على الجانب الآخر، عاش «نادر» أسعد أيام العمر مع خطيبته «جميلة»، أو هكذا تصور. كان يحن إلى حياة الاستقرا.، قرّر مع نفسه أن تكون «جميلة» محطة مغامراته الأخيرة، المحطة التي يغادر فيها قطار المتعة ويستقر إلى الأبد. بدأ في إنهاء نمط حياته القديم، انتظم في مواعيد الشغل، بدأ يعمل على تجهيز شقته لاستقبال العروس الجديدة، وأنهى علاقاته بكثير من نساء الماضي. كان قراره أن دونجوان غاردن سيتي اعتزل إلى الأبد.

الشيء الوحيد الذي كان يعكر صفو الخطيبين إصرار «جميلة» على تذكر ماضي خطيبها بمغامراته العاطفية، لذلك اشترطت عليه شرطين صارمين إذا لم ينفذهما ستفسخ الخطوبة فوراً، الأول: إذا ترامت إلى مسامعها حكاية أو مغامرة عاطفية جديدة له، والثاني: عدم معرفة زملائهما في الشركة بالخطوبة، لأن الجميع يحقد عليه وسيحاولون الإيقاع بينهما، وأخبرته أنها ستعلن خبر ارتباطهما في الوقت الذي تراه مناسباً.

وافق الموظف الوسيم من دون تردد، استسلم لجميع رغبات «جميلة»، ترك لها حرية القيادة. كان يأمل في أن يبني معها ميراثا من الثقة، وأن يبدأ حياته الجديدة قوامها الالتزام والإخلاص لكنه لم يكن يعلم ما تحمله له الأقدار.

بدأت الاستعدادات لإتمام الزواج في هدوء كامل، جميع المحيطين بهما لم يعلموا بأنهما يستعدان للزواج. في البداية سلم «نادر» لخطيبته مبلغ 40 ألف جنيه ثمناً للشبكة، وبعدها بأسبوع سلمها مبلغ 20 ألف جنيه لتشترى الملابس اللازمة لها، وبعد أسبوعين سلمها مبلغ 40 ألف جنيه أخرى مساهمة منه في شراء بعض مستلزمات عش الزوجية ليصل إجمالي ما سلمه «نادر» لخطيبته «جميلة» 100 ألف جنيه.

دفع «نادر» هذا المبلغ برضا تام، وراح يستعد ليوم الزفاف الذي حدده والد العروس بعد شهر. ولكن في عز فرحة الموظف الشاب وقع ما لم يخطر بباله أبداً. اختفت «جميلة» فجأة، انقطعت عن الحضور إلى الشركة، تلفونها الجوال مغلق دائماً، تلفون البيت لا أحد يرد عليه، حتى والدها لا يجيب على تلفونه الجوال. كاد «نادر» أن يجن جنونه، تزاحمت الأفكار السوداء في رأسه، هل حدث مكروه لـ «جميلة»، أم أن مكروهاً وقع للأسرة كلها؟

غياب جميلة

كيف يتصرف «نادر» في مثل هذا الموقف؟ لم يستطع أن يلح بالسؤال على زملائه وزميلاته في الشركة، حول سر غياب زميلته «جميلة». خشي أن ينكشف أمره إذا كرر السؤال، ويعرف الزملاء ما بينه وبين خطيبته التي وضعت له شرطاً لإتمام زواجهما ألا يخبر أحداً بالشركة التي يعملان فيها. ولكن القلق كان يفتك بـ «نادر» بعد اختفاء خطيبته «جميلة» بهذا الشكل المريب، لذلك قرر الذهاب إلى بيتها، فحمل هدية ثمينة وانطلق.

طرق باب الشقة ففتحت له «جميلة»، وتجهم وجهها بمجرد رؤية خطيبها. سأل «نادر» عروسه عما بها، فلم تجبه. تركته وانطلقت إلى والدها الذي كان يجلس في حجرة الصالون مع بعض الضيوف. اندفع «نادر» خلف خطيبته ولكن والد «جميلة»، قال له وكأنه يراه لأول مرة في حياته:

* أيوة يا أستاذ. أي خدمة؟ مين حضرتك؟!

لم يصدق «نادر» ما يسمعه. ابتسم في حيرة وبلاهة وقال:

- أيه يا عمي سلامتك. أنا نادر خطيب بنتك.

وساد الصمت بين الضيوف الذين راحوا يتناقلون نظرات الاستغراب في ما بينهم، وقال والد «جميلة» مستغرباً:

* خطيب بنتي؟ خطيب جميلة قاعد أهه، وأشار الأب إلى أحد الضيوف الموجودين في حجرة الصالون.

لم يستوعب «نادر» ما يجري من حوله، ثار الموظف الشاب ثورة عارمة، واشتبك مع الشخص الذي أشار عليه الأب بأنه خطيب «جميلة»، وراح يتشاجر مع الجميع، ويصرخ بأعلى صوته قائلا: «فلوسي يا ولاد الكلب».

اختفت «جميلة» من المكان في لمح البصر، وتكفل الخطيب الجديد وأفراد أسرته بطرد «نادر» من الشقة شر طرده، بعدما أوسعوه ضرباً. وقف «نادر» أسفل العقار وعقله يكاد يطير منه. عضّ على أنامله غيظاً، لضياع خطيبته منه بعد استيلائها ووالدها على مبلغ 100 ألف جنيه في أقل من شهر. الأكثر قسوة أن الخيانة جاءت ممن لبست مسوح الطهر وظهرت في صورة ملاك.

انطلق «نادر» إلى قسم شرطة عابدين، وأبلغ بما تعرض له من عملية نصب، وغادر قسم الشرطة إلى مكتب أحد المحامين، الذي أقام له دعوى أمام المحكمة المدنية، يطالب فيها باسترداد الشبكة وكل المبالغ التي سبق واستولت عليها خطيبته السابقة «جميلة». وأمام رئيس الجلسة وقف يتهم خطيبته ووالدها بالنصب عليه في حين أنكرت «جميلة» خطوبتها لـ «نادر» من الأساس، وقررت أن تلعب على ماضيه الأسود، قالت إنه يحاول الإساءة لسمعتها، بعدما رفضت الارتباط به بعلاقة محرمة، واستشهدت بزملائهما في العمل، الذين لم يكذبوا خبراً وبدأوا في سرد قصص وحكايات عن غراميات «نادر» المتعددة، خصوصاً ألا علم لديهم ولا خبر بقصة خطوبة نادر وجميلة، فيما أكدت الأخيرة أنها لا يمكن أن تقبل الزواج بمثله لسوء سمعته.

طلب القاضي من «نادر» تقديم أي مستندات تفيد باستلام «جميلة» أو والدها المبالغ التي يطالب باستردادها، فوقف حائراً لأنه بالطبع لم يستلم من عروسه أي أوراق تفيد بأنه دفع لها المبلغ المذكور، فقرر رئيس الجلسة رفض الدعوى.

غادر «نادر» قاعة المحكمة والحسرة تملأ قلبه، وعن بعد التقت نظراته الحزينة بنظرات «جميلة» التي استولت منه على 100 ألف جنيه، ودار هذا الحوار الصامت بين العيون:

- نصابة... وحقيرة.

* تعيش وتأخد غيرها يا دونجوان عصرك. ما يقع إلا الشاطر!