فجر يوم جديد: «أيقونات السينما المصرية»!
مهمة وعرة جداً، بل في غاية الصعوبة، أن يتحمّل ناقد أو باحث سينمائي مسؤولية اختيار أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية، كونها مهمة شاقة، بل مسؤولية كبيرة، تحتاج إلى مؤسسات وأجهزة تتحمل العبء المنتظر، والتداعيات المحتملة والمتمثلة في خيبة الأمل التي تعتري البعض في حال اختلاف القائمة النهائية عن التكهنات المسبقة الناتجة من الرهان على أفلام لم تجد لها مكاناً في القائمة مقارنة بأخرى عرفت طريقها بسهولة!هنا نتحدث عن «المنهج» الذي اتبعناه فنقول إننا رأينا أن يراعى الاختيار، في جانب منه، الظروف الزمنية والتاريخية التي أنتج فيها الفيلم، وجدارته بأن يكون «سابق عصره»، بالإضافة إلى اللغة السينمائية المنسجمة مع رؤيته الفكرية الثورية بصورة جعلت منه «أيقونة» لا يمكن تجاهلها أو إسقاطها من الحسبان، مع الوضع في الاعتبار معيار «الذوق»، خصوصاً إذا كان «الاستفتاء» يتم في نطاق ضيق، وبشكل شخصي أكثر منه مؤسسي، وهو ما ينطبق على هذه المبادرة التي تحكمها اعتبارات كثيرة، كضيق المساحة، والتحرك في أطر محدودة، فضلاً عن قلة عدد الأفلام الواجب اختيارها، والتي لا تتجاوز عشرة أفلام على أكثر تقدير، بينما تتيح غالبية الاستفتاءات المجال، والحرية، لاختيار مئة فيلم على سبيل المثال!
صعوبة «المنهج» كانت سبباً في تسهيل «الآلية»، والوصول إلى قائمة تتكون من أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية هي: «المومياء»، «الأرض»، «باب الحديد»، «الحرام»، «شباب امرأة»، «سواق الأتوبيس»، «البوسطجي»، «الكيت كات»، «بداية ونهاية» و{شيء من الخوف»، بالإضافة إلى قائمة احتياطية تضم ثلاثة أفلام هي: «زوجتي والكلب»، «زوجة رجل مهم» و{البريء». وربما ينظر البعض إلى القائمة بوصفها حكماً مبدئياً يحتمل الطعن والاستئناف، ومن ثم نسوق الحيثيات التي بنينا عليها اختيارنا، وأولها أن فيلم «المومياء» (1974)، الذي أنتجته مؤسسة السينما في مصر، واكتنفه غموض ساحر، لا ينازعه الحنين إلى الماضي، حسبما قرأه البعض، وإنما يستنهض الهمم، ويجسد التناقض الهائل بين ما وصلنا إليه وما كنا عليه، بينما يجسد فيلم «الأرض» (1970) أهمية مواجهة الإقطاع ورموزه والتشبث بالأرض بوصفها العرض مهما كانت التضحيات، في حين يُحسب لـ «باب الحديد» (1958) أنه أول فيلم وجه الأنظار إلى أهمية قضية «تأسيس النقابات» المدافعة عن حقوق أهدرت طويلاً على أيدي الانتهازيين والمستغلين من الرأسماليين الجشعين، ويأتي «الحرام» (1965) بمثابة قصيدة سينمائية في حب الفقراء، ومحاولة ناضجة لتسليط الضوء على معاناتهم اليومية، وبينما يبدو أن «شباب امرأة» (1956) اتخذ لنفسه منحى آخر إلا أن القراءة المتأنية لجوانبه كافة تكشف براعة ملحوظة في توظيف العلاقة بين امرأة ناضجة وفتى يافع إلى حديث ذي شجون عن القروي الذي أغوته المدينة، واستغلال الجهل، والقوة التي يغيب عنها العقل، في إرواء ظمأ النهمين للدنيا! الأمر الذي لا شك فيه أن فيلم «سواق الأتوبيس» (1982) دائماً ما يحتل المكانة اللائقة به في قوائم أهم، وأفضل، أفلام السينما المصرية، مهما اختلفت الجهات التي تنظم القوائم، أو تباينت الأذواق التي تحدد الاختيار، فالفيلم كرس لما اصطلح على تسميته «الواقعية الجديدة في السينما المصرية»، وقدم رؤية خلاقة مزجت بين قضايا الواقع الخشن والمشاعر الإنسانية الجياشة، وهي معادلة يمكن الاحتفاء بها، والنظر إليها باعتبارها نقلة نوعية تعيد تذكيرنا بفيلم «البوسطجي» (1968)، الذي يُعد واحداً من كلاسيكيات السينما المصرية، لنجاحه أيضاً في الاشتباك مع الواقع في حقبة زمنية مختلفة، وقدرته الرائعة على تفجير شحنة شعورية إيجابية، وابتكار حالة من التعاطف مع البطلة ضحية التقاليد والعادات البالية، وتحريضه ضد الفقر والقهر والجهل، وهي أمراض لم تتوقف السينما المصرية يوماً عن ملاحقتها وفضحها، واختلفت صور تناولها وطرحها، ما بين «الكيت كات» (1991)، الذي انطلق إلى آفاق رحبة، وحلق في سماء من السحر والسخرية، بينما التزم «بداية ونهاية» (1960) شكلاً كلاسيكياً وهو يقترب من قضايا الفقر والانتهازية والطموح غير المشروع، فيما شهد «شيء من الخوف» (1969) قفزة هائلة وهو يطرح ثنائية «الديكتاتورية» و{القهر»! إطلاق وصف «القائمة الاحتياطية» على أفلام: «زوجتي والكلب» (1971)، «زوجة رجل مهم» (1988) و{البريء» (1986) لا يعني تهميشها أو تدنيها مقارنة بالأفلام العشرة السابقة، بدليل احتلالها المكانة التي تستحقها في قوائم المئة وغيرها، والحفاوة التي تنتظرها في كل مناسبة سينمائية، فالتجديد ظل سمة «زوجتي والكلب»، والجرأة الناضجة صارت مزية «زوجة رجل مهم» بينما سيلتصق وصف «الفيلم النبوءة» بالقطعة السينمائية المثيرة «البريء»، التي لم تكتف باستنطاق الحاضر، وإنما ذهبت إلى أبعد من هذا عندما قرأت المستقبل! بشكل أو بآخر اجتمعت الأفلام كافة التي اخترناها على كونها ثورية، تحريضية ومنحازة إلى الفقراء والمعدمين والطبقة المتوسطة المأزومة. وربما يرى البعض في عدم التنويه إلى مخرجيها ظلماً صارخاً، لكنه موضوع حديثنا المقبل.