خالد شاب طموح، لكنه بدأ حياته بكذبة كبيرة. ربما تكون الظروف ساعدت في صناعة الكذبة، أو أن الطريق الذي سار فيه كان معداً سلفاً له، لكنه في النهاية استسلم للأكاذيب، مع أن الكذبة الأولى كان لها سبب وجيه.

رغم أنه ينتمي إلى طبقة متوسطة، فإن والديه ضحيا بكل ما يملكان ليعلما ابنهما الوحيد في أشهر مدارس مدينة الإسكندرية الساحلية، لكن دخوله هذه المدرسة التي كانت الملاذ لأبناء الطبقات الأكثر ثراء في مصر، جعل خالد يعاني أزمة الفروق الطبقية بينه وبين بقية الطلاب.

Ad

عاش خالد مع زملاء الدراسة حياة متوترة مليئة بالحرمان. مستوى الزملاء المادي مرتفع، على عكس خالد الذي لا يملك والده إلا راتبه. كان أقرانه يتباهون بثراء أسرهم، لكن خالد لم يجد ما يقوله عن أسرته، فكان يلتزم الصمت دائماً، في مجتمع لا يقدس إلا المادة، لذلك قرر ألا يتحول إلى تلميذ منبوذ من الجميع، حتى ولو عن طريق اختراع كذبة كبيرة.

أخبر خالد الجميع أن والده يملك الملايين في البنوك، لكنه يكره التباهي بالأمر، وكبر خالد وكبرت الكذبة معه، وكان طبيعياً أن تفرز الكذبة الأولى أكاذيب أخرى حتى تسندها وتحافظ عليها. من بين تلك الأكاذيب أنه خريج كلية الهندسة قسم اتصالات، مع أنه خريج أحد معاهد صيانة الكمبيوتر، وسط إصراره على أن يناديه الجميع بـ «الباشمهندس».

اعتاد خالد الكذب، فألف كذبة جديدة على شريكة حياته مها، وهي أن ثروة والديه طارت بعد الأزمة المالية العالمية عام 2012، وأنه خرج من الدنيا بشقة متواضعة ليتزوجا فيها، ولكنه وعدها بحياة مستورة في أقرب وقت.

انكشاف كذبة

يقول المثل المصري الشهير: «الكذب مالوش رجلين»، وسرعان ما انكشفت أكاذيب خالد بعد أشهر من زواجه بالشابة الجميلة مها، التي أحست أنها سقطت في براثن كذاب محترف، فلا والده خسر ثروته في البورصة العالمية ولا كان يملك ثروة من الأساس. كذلك اكتشفت الزوجة المخدوعة أن زوجها خريج معهد وليس خريج كلية الهندسة.

فكرت مها في طلب الطلاق، لكنها تراجعت خشية كلام الناس، إذ لم يمر على زواجهما إلا بضعة أشهر. فكرت في مواجهة زوجها بأكاذيبه، لكنها أدركت ألا فائدة من تلك المواجهة، فمن شب على شيء شاب عليه، وزوجها لن يتغير، ولن يكف عن إطلاق الأكاذيب.

قررت الزوجة الشابة أن تستمر حياتها مع خالد على الكذب، ورأت أن أفضل طريقة للانتقام منه أن ترد له الصاع صاعين، بعدما كرهته من كل قلبها. قالت لنفسها إنها ستوهمه بالحب كما أوهمها بثرائه قبل زواجهما، وهكذا كان أساس حياة الزوجين يقوم على الخداع والغش، لذلك هربت السعادة الحقيقية فوراً من حياتهما، وإن بدت أمام معارفهما هادئة بسيطة.

ذات صباح، رن جرس التلفون داخل شركة صيانة أجهزة الكمبيوتر التي يعمل فيها خالد. التقط أحد العاملين السماعة ليردّ على المكالمة. ما إن استمع إلى صوت المتكلم حتى استدار وراح ينادي زميله الجالس خلف شاشة جهاز الكمبيوتر قائلا:

«يا باشمهندس خالد... تلفون علشانك».

ترك خالد مكانه وتقدم إلى مكتب زميله ليمسك بسماعة التلفون، وبمجرد أن نطق بكلمة «آلو» حتى جاء صوت شخص غريب على الطرف الآخر يقول في نبرة سخرية: «بقى يا راجل يا قفل، أنت قاعد تشتغل عندك، وسايب مراتك دايرة على حل شعرها في الشوارع».

غلت الدماء في عروق «الباشمهندس» وقبل أن يرد على محدثه انقطع الخط. وجه سيلاً من الشتائم إلى الفراغ، لكن العاملين الموجودين في المكان انتبهوا إلى زميلهم الثائر، سأله أحدهم عن سر ثورته وإلى من كان يتحدث، ولكن خالد لم يجب. أشاح بيده وعاد ليجلس خلف جهاز الكمبيوتر، وهو يتميز من الغيظ.

جنون الشك

في ذلك اليوم، فشل «الباشمهندس» في السيطرة على أعصابه أو استجماع صلابته المعروفة عنه. راح يفكر في أمر هذه المكالمة الغريبة، التي تكررت خلال الأيام القليلة الماضية بنفس كلماتها الجارحة، ونفس نبرة سخرية المتحدث المجهول. كاد عقل الزوج الشاب، الذي لم يكمل الرابعة والعشرين من العمر، أن يطير من رأسه لعدم معرفته شخصية محدثه المجهول، هذا الشخص الذي يطعنه يومياً في شرفه ويتهم زوجته الشابة مها بأبشع اتهام تواجهه زوجة في الدنيا وهو الخيانة.

كثيرا ما حاول خالد تتبع أصل المكالمات التي تصله سواء على هاتفه المحمول أو على تلفون الشركة ولكنه فشل، وكثيراً ما حاول إبعاد الأفكار السوداء التي سرعان ما تقفز إلى رأسه عقب كل مكالمة من هذا الشخص المجهول ولكن من دون جدوى. وراح الزوج الشاب يبحث في داخله عن أسباب محاولة الإيقاع بينه وبين زوجته التي يعشقها، وراح يسأل نفسه: من المستفيد؟!

لم يقوَ خالد على العمل في ذلك اليوم في ظل حيرته الشديدة. استأذن مديره بالانصراف مبكراً، وعاد الزوج الشاب إلى منزله. فتح باب الشقة وراح ينادي زوجته مها ولكنها لم تجبه. اكتشف أنها خارج المنزل. أمسك تلفونه الجوال واتصل بها، فجاء الرد الآلي أن الرقم المطلوب ربما يكون مغلقاً أو خارج نطاق الخدمة.

تهالك خالد إلى أقرب مقعد في صالة الشقة، وألقى بتلفونه الجوال بعيداً، وجلس ينتظر عودة زوجته، وقد اتخذ قراراً بإخفاء أمر المكالمات المجهولة التي يتلقاها يومياً في محل عمله أو على هاتفه الخاص، حتى لا ينقل الحيرة والتوتر إلى زوجته. كذلك جعله الشك الذي بات يسيطر عليه يفضل متابعتها في صمت عله يصل إلى حقيقة هذه المكالمات.

بعد ما يقرب الساعة أمضاها خالد في الانتظار، انفتح باب الشقة ودخلت مها، وما إن رأت زوجها يجلس في انتظارها حتى ارتبكت قليلا، وسألته في دهشة: خير ... إيه اللي رجعك بدري النهاردة؟

لم يجب خالد عن سؤال زوجته. كان ارتباكها مريباً، رغم أنها بذلت مجهوداً لإخفائه، وربما أتت المكالمات الهاتفية المجهولة بثمارها في تلك اللحظة، فجعلته يشك في كل همسة أو حركة تبدر من زوجته.

بعد لحظات طويلة، أجاب خالد بكلمات مقتضبة معللا عودته مبكراً بشعوره بصداع خفيف. أسرعت مها، في تمثيل مصطنع، إلى طبع قبلة حانية على جبين زوجها، وقالت متظاهرة بالحنان: «ألف سلامة عليك يا حبيبي»، وانطلقت إلى غرفة نومها تاركة حقيبة يدها فوق المقعد المجاور للمقعد الذي يجلس عليه الزوج، وجاء صوت مها من بعيد، وهي تفتح باب غرفة النوم قائلة: «دقايق وهيكون الأكل جاهز... هاخد شاور بسرعة وأخرج أحضر الغداء».

في حركة لاإرادية امتدت يد خالد إلى حقيبة يد زوجته مها. لم يفكر يوماً في تفتيشها، لكن شكوكه كانت أكبر من أي أمر مر به في حياته. تغلب على خوفه بإقناع عقله أنه يريد إبعاد الحقيبة ليمدّ قدميه ليستريح قليلا، لكن المهندس الشاب بمجرد أن أمسك بالحقيبة حتى تحجرت عيناه على مبلغ كبير من المال يطل من جيب بداخل الحقيبة، التقطها بسرعة وأمسك بالمبلغ وراح يعده فاكتشف أنه يقارب الخمسة آلاف جنيه.

قفز السؤال التقليدي إلى ذهنه: من أين جاءت زوجته مها بهذا المبلغ الكبير؟ اقتحمت الأفكار السوداء جميعها رأس الزوج الشاب هذه المرة بلا رحمة. هل يمكن أن تكون المكالمات التي تصله يومياً وتؤكد خيانة زوجته له صحيحة؟ قفز من مكانه وانطلق بسرعة ناحية الحمام حيث زوجته تأخذ دشاً باردا، ومن خلف الباب المغلق جاء سؤال خالد في نبرة حادة متشككة:

- إيه الفلوس اللي معاكِ دي يا مها؟ جبتيها منين؟

ولم يصدر عن الزوجة أي صوت، فراح خالد يكرر السؤال حتى قالت مها بصوت متردد: «لما أخرج من الحمام هأقول لك».

خيانة

عاد خالد إلى مقعده في صالة الشقة وراح ينتظر على أحر من الجمر خروج زوجته من الحمام ليعرف منها سر المبلغ الكبير، الذي عثر عليه داخل حقيبة يدها. ومرت دقائق كأنها دهر على خالد، قبل أن تخرج مها إليه وقالت بصوت مرتبك: «دي فلوس جمعية كنت عملاها مع صديقاتي من وراك عشان أعمل لك مفاجأة... إيه رأيك في المفاجأة دي يا حبيبي؟». كانت فعلاً مفاجأة ولكن غير سارة. لم يقتنع المهندس الشاب برواية زوجته، لكنه آثر الصمت، تظاهر بابتلاع الطعم، ولكنه كان اتخذ قراراً مهما بضرورة اكتشاف حقيقة هذا المبلغ الكبير في أقرب فرصة.

صباح اليوم التالي، غادر خالد منزله في موعده المعتاد، لكنه لم يتوجه إلى الشركة التي يعمل فيها، وقف عند نهاية الشارع يراقب ما سيجري، وماذا ستفعل زوجته مها أثناء غيابه. لم ينتظر طويلا بمجرد مرور نصف ساعة، شاهد زوجته مها تخرج من باب العمارة مرتدية أبهى ثيابها، ملابس لا ترتديها عادة إلا عندما تكون معه. سارت خطوات قليلة حتى وصلت إلى سيارة فارهة سوداء اللون، يجلس داخلها رجل أنيق في بداية الأربعينيات من عمره. وقف خالد مذهولا وهو يشاهد زوجته تفتح باب السيارة الفارهة، وتجلس على المقعد المجاور لمقعد قائدها الرجل الأنيق وتطبع على خده قبلة.

لم يدر خالد ماذا يفعل. هل ينطلق إلى السيارة الفارهة قبل أن تغادر ويواجه زوجته مع الرجل الغريب؟ همّ خالد فعلاً أن ينطلق إليهما، ولكن السيارة كانت أسرع عندما غادرت. أخرج تلفونه الجوال والتقط صوراً عدة لزوجته مها، وهي جالسة داخل السيارة برفقة الرجل الغريب، كاد خالد يسقط في الشارع مغشياً عليه. أخيراً تأكد من صحة المكالمات الهاتفية المجهولة التي وصلته على مدار الأيام السابقة. تأكد بأم عينيه من خيانة زوجته التي حارب لأجلها عائلته وأمه والدنيا كلها. بصعوبة بالغة تمالك الزوج الشاب أعصابه وعاد إلى شقته وألقى بجسده على أول مقعد في انتظار عودة زوجته الخائنة ليتولى حسابها بنفسه.

في الثالثة عصراً، عادت مها. فتحت باب الشقة لتجد زوجها خالد لليوم الثاني على التوالي، في انتظارها ولكن هذه المرة كان الشرر يتطاير من عينيه، سألها في حدة وغضب: كنتِ فين يا محترمة؟

ارتبكت الزوجة الشابة، شعرت بإحساس فأر وقع في المصيدة، حاولت تغيير الحوار سألت زوجها وعلى وجهها ابتسامة باهتة: أنت إيه اللي رجعك بدري النهاردة كمان؟ زاد غضب خالد من محاولات زوجته تضليله عن سبب خروجها من المنزل من دون علمه، أمسكها من يديها بقوة قائلا: مين الراجل اللي كنتِ معاه في العربية السودا؟ كان السؤال صادماً وكاشفاً. زاد ارتباك مها أكثر وأكثر وقالت منفعلة وهي تشعر بوقوعها في المصيدة: «راجل إيه وعربية سودا إيه... إيه التخريف ده أنت أكيد اتجننت رسمي».

انفجر بركان الغضب داخل صدر الزوج المخدوع، أخرج تلفونه الجوال ووضع الصورة التي التقطها لزوجته أمام عينيها وهو يقول بعصبية:

- اتجننت... دي صورة مين... مش صورتك ولا صورة أمي؟

أسقط في يد الزوجة الشابة فلم ترد، اكتفت بذرف دموعها وهي تسمع وترى أدلة اتهامها بالخيانة عبر تلفون زوجها. لكنها فجأة قررت أن تحول الدفة، أملا في كسب وقت يمكنها من الخروج من الشرك الذي وقعت فيه. استجمعت شجاعتها وراحت تسرد لزوجها وجهاً لوجه أسباب خيانتها له. اتهمته بالضعف والفقر وإهمالها والكذب عليها منذ اليوم الأول. طعنته في رجولته. اتهمته بأن مخدر البانغو الذي يتعاطاه يومياً أفقده كل شيء. واختتمت الزوجة الخائنة قائمة الاتهامات لزوجها الشاب بأن طلبت منه وبإصرار أن يطلقها في الحال.

كلمات الزوجة الخائنة مزقت قلب خالد أرباً. شعر بالعري وأنه جرد من كل شيء، إنسانيته ورجولته وحياته كلها. دارت الدنيا به. لم يشعر بما يجري حوله. ابتعد قليلا عن مها، سار مثل النائم مغناطيسياً في اتجاه المطبخ، استل أكبر سكين، وعاد إلى زوجته الخائنة التي وقفت وظهرها له، وتمطره بالاتهامات والكلمات القاسية بأعلى صوتها.

أمسك خالد زوجته بعنف والحقد يتملكه، دفعها لتستدير وتصبح في مواجهته. نظرت مها إلى السكين في ذعر. أطلقت صرخة هائلة، وأسرع خالد، وغرس السكين في قلبها بقوة ليسكت زوجته الخائنة إلى الأبد. كان الحقد والانتقام شعاره. برر لنفسه الانتقام من زوجته بحجة الشرف، لكنه في الحقيقة كان يبحث عن تعويض لخسائر السنين الماضية، رأى فيها كل خيباته وقد تجمعت في جسدها الذي استعصى عليه لذلك قرر الانتقام.

تجمع الجيران على صرخة مها الأخيرة، وانهالوا بأيديهم على باب الشقة حتى كسروا الباب، ووجدوا خالد واقفاً وتحت قدميه جثة زوجته الشابة غارقة في دمائها. أبلغوا رئيس مباحث الإسكندرية بالجريمة، وتم اقتياد خالد إلى محكمة جنايات الإسكندرية، حيث اعترف بجريمته مؤكداً أنه قتل زوجته مها دفاعاً عن الشرف لكن الأدلة لم تكن كافية، فقضت المحكمة بمعاقبته بالسجن 15 سنة، إذ فشل في إثبات أدلة خيانة زوجته، ولم تكن الصورة التي التقطها لها بتلفونه الجوال وحدها تكفي لإثبات الخيانة الزوجية.