تكمل شهرزاد الحكاية بالإشارة إلى أنه اتفق أن دخلت الجارية يوماً الحمام الذي في المنزل، ثم لبست الثياب الفاخرة، فزاد حسنها وجمالها، ودخلت على زوجة الوزير وقبلت يدها، فسألتها: يا أنيس الجليس كيف حالك في هذا الحمام؟ أجابت: يا سيدتي ما كان ينقصه إلا حضورك فيه. عند ذلك قالت سيدة البيت للجواري: قمن بنا ندخل الحمام. امتثلن لأمرها ومضين وهي معهن إلى الحمام، بعد أن وكّلت بباب المقصورة التي فيها "أنيس الجليس” لجاريتين صغيرتين، وقالت لهما: لا تُمكّنا أحداً من الدخول على الجارية "أنيس الجليس”. فقالتا: السمع والطاعة.

قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أنه بينما بقيت أنيس الجليس في المقصورة، وإذا بابن الوزير واسمه "علي نور الدين” قد حضر وهو سكران، وسأل عن أمه، فقالت له الجاريتان: إنها في الحمام، ولما سمعت أنيس الجليس كلامه وهي داخل المقصورة، قالت لنفسها: ترى ما شأن هذا الصبي الذي حذرني الوزير منه، والله إني أشتهي أن أنظره.

Ad

ثم نهضت الجارية وتقدمت جهة باب المقصورة، ونظرت إلى علي نور الدين، فإذا هو صبي كالبدر في تمامه، فأورثتها النظرة ألف حسرة، ولاحت من الصبي التفاتة إليها، فوقع في شركِ حُسنها، ونظر إلى الجاريتين، وشرع في ضربهما فهربتا من بين يديه، ووقفتا من بعيد تنظران ما يفعل، وإذا به تقدم إلى باب المقصورة وفتحه ودخل على الجارية وقال لها: أنت التي اشتراك لي أبي؟ فقالت له: "نعم”.

عند ذلك تقدم إليها وضمها وقبلها، ورأته الجاريتان من بعيد، فصرختا مستغيثتين، وأسرع هو بالفرار. ولما سمعت سيدة البيت صراخ الجاريتين، خرجت من الحمام والعرق يقطر منها وقالت: ما سبب هذا الصراخ في الدار؟ ثم علمت من الجاريتين اللتين أجلستهما على باب المقصورة أن ابنها نور الدين جاء ودخل على أنيس الجليس، ثم هرب عند صراخهما. فدخلت على أنيس وسألتها: ما الخبر؟ فأجابت: يا سيدتي، أني لقاعدة هنا وإذا بصبي جميل الصورة دخل وقال لي: أنت التي اشتراك أبي لي؟ ثم أخذ مني ثلاث قبلات.

فيما هي كذلك، إذا بالوزير قد حضر، وسأل عن الخبر، فأخبرته زوجته بما حدث، فحزن ومزق ثيابه ولطم وجهه ونتف لحيته، فقالت له: لا تقتل نفسك،. أنا أعطيك من مالي عشرة آلاف دينار ثمنها. عند ذلك رفع رأسه إليها، وقال لها: ويلك، أنا ما لي حاجة بثمنها، ولكن خوفي أن تذهب روحي ومالي. فقالت له: يا سيدي ما سبب ذلك؟ قال لها: أما تعلمين أن وراءنا هذا العدو الذي يقال له المعين بن ساوي، ومتى سمع بهذا الأمر أبلغه إلى السلطان؟

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

رحيل الفضل

لما كانت الليلة التاسعة والتسعون بعد المئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير قال لزوجته: ماذا أقول للسلطان إذا قال له غريمي: إن وزيرك الذي تزعم أنه يحبك أخذ منك عشرة آلاف دينار واشترى بها جارية ما رأى أحد مثلها، فلما أعجبته قال لابنه أنت أحق بها من السلطان؟ وماذا أصنع إذا أذن له السلطان في أن يهجم على دارنا ويأخذ الجارية إليه، وهي حين يسألها ما تقدر أن تنكر، وعلى هذا تعمل الوشاية الجارية، وعلى هذا تعمل الوشاية عملها، فيمثِّل بي السلطان، والناس كلهم يتفرجون عليّ. فقالت له زوجته هذا الأمر حصل خفيةً، فسلم أمرك إلى الله في هذه القضية وعند ذلك سكن قلب الوزير وطاب خاطره.

أما علي نور الدين ابنه، فلما علم بوصول النبأ إلى أبيه، خشي عاقبة الأمر، وصار يقضي نهاره في البساتين، ولا يعود إلا في آخر الليل فينام عند أمه، ثم يقوم ويخرج قبل أن يراه أحد، ولم يزل كذلك شهراً، إلى أن قالت أمه لأبيه: إن طال هذا الأمر عدمت الجارية والولد، فقال لها: كيف العمل؟

فقالت: اسهر هذه الليلة، فإذا جاء فأمسكه وأعطه الجارية فإنها تحبه وهو يحبها، وأعطيك ثمنها، فسهر الوزير طول الليل حتى أتى ولده فأمسكه وأراد نحره، فأدركته أمه وقالت له: أي شيء تريد أن تفعل معه؟

فقال لها: أريد أن أذبحه، فقال الولد لأبيه: هل أهون عليك؟ فترقرقت بعينيه الدموع وقال له: وأنت كيف هان عليك ذهاب مالي وروحي؟ فقال الصبي: اسمع يا والدي ما قال الشاعر:

هبني جنيت فلم يزل أهل النهي

يهبون للجاني سماحـــــاً شاملاً

ماذا عسى يرجو عدوك وهو في

درك الحضيض، وأنت أعلى منزلاً

عند ذلك قام الوزير من فوق صدر ولده، وأشفق عليه، وقام الصبي وقبل يد والده، فقال الوزير: يا ولدي لو علمت أنك تنصف أنيس الجليس كنت وهبتها لك. فقال: يا والدي كيف لا أنصفها وأنا أحبها؟ إنني أحلف لك لا أتزوج عليها ولا أبيعها أو أفرط فيها. عند ذلك وافق أبوه على زواجه بها.

أقام نور الدين مع الجارية أنيس الجليس نحو سنة، إلى أن علم المعين بن ساوي بالخبر، ولكنه لم يقدر أن يتكلم لعظم منزلة الوزير عند السلطان. فلما مضت السنة دخل الوزير فضل الدين بن خاقان الحمام، وخرج وهو عرقان فأصابه الهواء، فلزم الوساد، وطال به السهاد، وتسلسل إليه الضعف. عند ذلك نادى ولده علي نور الدين، فلما حضر بين يديه قال له: يا ولدي إن الرزق مقسوم، والأجل محتوم، ولا بد لكل نسمة من شرب كأس المنون، وما لي عندك وصية إلا تقوى الله، والنظر في العواقب، وأن تعتني بالجارية أنيس الجليس.

فقال له: يا أبت لك البشرى جزاء فعل الخير ودعاء الخطباء لك على المنابر، فقال له: يا ولدي أرجو من الله تعالى القبول، ثم نطق بالشهادتين وشهق شهقة فكتب من أهل السعادة. عند ذلك امتلأ القصر بالصراخ، ووصل الخبر إلى السلطان، كما سمع أهل المدينة بوفاة الفضل بن خاقان، فبكت عليه الصبيان في مكاتبها، ونهض ولده علي نور الدين وجهزه، وحضر الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وأهل المدينة مشهدَه، وكان ممن حضر الجنازة الوزير المعين بن ساوي، وأنشد بعضهم عند خروج الفضل بن خاقان من الدار إلى القبر، هذه الأبيات:

قد قلت للرجل المولى غسله

هلا أطاع وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسله بمـــــا

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل مجاميع الحنوط ونحها

عنه وحنطه بطــــــــيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله         

شرفاً ألست تراهموا بإزائه؟

إفلاس علي نور الدين

مكث علي نور الدين شديد الحزن على والده مدة مديدة، وفيما هو جالس يوماً في بيت والده، طرق الباب طارق، فنهض علي نور الدين وفتح الباب، وإذا برجل من ندماء والده وأصحابه، فقبل يد علي نور الدين وقال: يا سيدي من خلف مثلك ما مات، وهذا مصير سيد الأولين والآخرين (صلى الله عليه وسلم)، يا سيدي طب نفساً، ودع الحزن. عند ذلك نهض علي نور الدين إلى قاعة الجلوس، ونقل إليها ما يحتاج إليه، واجتمع به أصحابه ومن بينهم عشرة من أولاد التجار، أكل معهم وشرب وطرب، وصار يُعطي ويتكرّم.

ودخل عليه وكيله وقال له: يا سيدي علي نور الدين، أما سمعت أن من ينفق بغير حساب يفتقر؟ ولقد أحسن من قال هذه الأبيات:

أصون دراهمي وأذب عنها

لعلمي أنها سيفــــــــي وترسي

أأبذلها إلى أعدى الأعــادي

وأبد في الورى سعدي بنحسي

وأحفظ درهمي عن كل شخص

لئيم الطبع لا يصفـــــو لأنسي

أحب إليّ من قولي لنـــذل

أنلني درهما لغد بخـــــــــــمس

فيعرض وجهه ويصدّ عني

فتبقى مثل نفس الكلب نفسي

فيا ذل الرجال بغير مال

ولو كانت فضــــــــــائلهم كشمس

ثم قال: إن النفقة الجزيلة، والهبات العظيمة، تفني المال، فلما سمع علي نور الدين من وكيله هذا الكلام، نظر إليه وقال له: جميع ما قلته لا أسمع منه كلمة، فما أحسن قول الشاعر:

إذا ما ملكت المال يوماً ولم أجد

فلا بسطت كفي ولا نَهضَت رجلي

فهاتوا بخيلا نال مجدا ببــخله

وهاتوا أروني باذلاً مات من بـــذلِ

ثم قال: اعلم أيها الوكيل أني أريد إذا فضل عندك ما يكفيني لغذائي ألا تحملني هم عشائي. فانصرف الوكيل من عنده، وأقبل هو على ما كان فيه مع أصحابه، وكلما قال له أحد ندمائه: هذا الشيء مليح، يقول له: هو لك هبة. ولم يزل يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار مجلساً، وفي آخره مجلساً، حتى مضت سنة كاملة، فبينما هو جالس يوماً وإذا بالجارية تنشد هذين البيتين:

أحسنت ظنك بالأيام إذ حَســن

ولم تخفْ سوء ما يأتي به القدرُ

وسالمتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ

لما فرغت من شعرها، إذا بطارق يطرق الباب، فقام علي نور الدين وتبعه بعض جلسائه من غير أن يعلم، فلما فتح الباب رأى وكيله فقال له: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي الذي كنت أخاف عليك منه قد وقع لك.

قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم أنه ما بقي لك تحت يدي شيء يساوي درهما، ولا أقل من درهم، وهذه دفاتر المصروفات التي أنفقتها ودفاتر أصل مالك. فلما سمع علي نور الدين هذا الكلام أطرق وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكان الرجل الذي تبعه خفيةً قد سمع كلام الوكيل فرجع إلى أصحابه وقال لهم: انظروا أي شيء تعملون فإن علي نور الدين قد أفلس. فلما رجع إليهم علي نور الدين، وظهر لهم الغم في وجهه، نهض أحدهم ونظر إلى علي نور الدين وقال له: يا سيدي إني أريد أن تأذن لي بالانصراف.

سأل علي نور الدين: لماذا الانصراف في هذا اليوم؟ فقال: زوجتي تلد في هذه الليلة ولا يمكنني أن أتخلّف عنها. فأذن له، ثم نهض آخر وقال له: يا سيدي نور الدين، أريد اليوم أن أحضر عند أخي فإنه يطهر ولده. وصار كل واحد يستأذنه بحيلة ويذهب في سبيله، حتى انصرفوا كلهم، وبقي وحده. عند ذلك دعا جاريته وقال: يا أنيس الجليس أما تنظرين ما حل بي؟ وحكى لها ما قاله الوكيل، فقالت: يا سيدي منذ ليال هممت بأن أقول لك ذلك.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

الأصدقاء العشرة

لما كانت الليلة المئتان، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أنيس الجليس قالت لزوجها علي نور الدين: هممت أن أقول لك هذا. فقال لها: أنت تعرفين أني ما صرفت مالي إلا على أصحابي، وأظنهم لا يتركونني من غير مواساة. فقالت له أنيس الجليس: والله ما ينفعونك بنافعة. فردّ: أنا في هذه الساعة أروح إليهم وأطرق أبوابهم لعلي أنال منهم شيئاً فأجعله في يدي رأس مال وأتجر فيه وأترك اللهو واللعب. ثم نهض من وقته وساعته وما زال سائراً حتى أقبل على الزقاق الذي فيه أصحابه العشرة، وكانوا كلهم ساكنين في ذلك الزقاق. تقدم إلى أول باب وطرقه، فخرجت له جارية وسألته: من أنت؟ فأجابها: قولي لسيدك علي نور الدين واقف على الباب، ويقول لك مملوكك يقبل أياديك وينتظر فضلك، فدخلت الجارية وأعلمت سيدها بما سمعته، فقال لها: ارجعي وقولي له ما هو هنا. فرجعت الجارية إلى علي نور الدين وقالت له: يا سيدي إن سيدي ما هو هنا، فانصرف وقال لنفسه: إن كان هذا ولد زنا وأنكر نفسه، فغيره ما هو ولد زنا. ثم تقدم إلى الباب الثاني، وقال كما قال أولاً، فأنكر الآخر نفسه، فعند ذلك أنشد هذا البيت:

ذهب الذين وقفت ببابهم

منوا عليك بما تريد من الندى

لما فرغ من شعره، قال: والله لا بد أن أمتحنهم كلهم، عسى أن يكون فيهم واحد يقوم مقام الجميع، ودار على العشرة فلم يجد أحداً منهم فتح الباب ولا أراه نفسه، ولا أمر له برغيف، فأنشد هذه الأبيات:

المرء في زمن الإقبال كالشجرة

فالناس من حولها ما دامت الثمرة

حتى إذا أسقطت كل الذي حملت

تفرقوا وأرادوا غيرها شجرة

تبا لأبناء هذا الدهر كلهم

فلم أجد واحداً يصفو من العشرة

«الدرة اليتيمة»

ثم رجع إلى جاريته وقد تزايد همه، فقالت له: يا سيدي أما قلت لك إنهم لا ينفعونك بنافعة؟ فقال: والله ما فيهم من أراني وجهه. فقالت له: يا سيدي بع من أثاث البيت شيئاً فشيئاً وأنفق. فباع مما في البيت حتى لم يبق عنده شيء، وعند ذلك نظر إلى أنيس الجليس وسألها: ما نفعل الآن؟ فأجابته: يا سيدي عندي من الرأي أن تقوم في هذه الساعة وتنزل بي إلى السوق فتبيعني، وأنت تعلم أن والدك اشتراني بعشرة آلاف دينار، فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا قدر الله أن نجتمع فإننا سنجتمع. فقال لها: يا أنيس الجليس ما يهون عليّ فراقك ساعة. فقالت: ولا أنا، لكن للضرورة أحكام. عند ذلك سالت دموعه على خديه، وأنشد هذين البيتين:

قفوا زودوني نظرة قبل بينكم

أعلل قلبا كاد بالبين يتـــــــلف

فإن كان تزويدي بذلك كلفة

دعوني في وجدي ولا تتكلفوا

ثم مضى وسلمها إلى الدلال وقال له: اعرف مقدار ما تنادي عليه. فقال له الدلال: يا سيدي علي نور الدين الأصول محفوظة. ثم قال له: أما هي أنيس الجليس التي كان والدك قد اشتراها مني بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم. عند ذلك طلع الدلال إلى التجار، فوجدهم لم يجتمعوا كلهم، وانتظر وقتاً قصيراً حتى اجتمع سائر التجار، وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية. لما نظر الدلال إلى ازدحام السوق، نهض قائماً وقال: يا تجار، يا أرباب الأموال، ما كل مدور جوزة، ولا كل مستطيلة موزة، ولا كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة، ولا كل صهباء خمرة، ولا كل سمراء تمرة. يا تجار هذه هي "الدرة اليتيمة”، التي لا تفي الأموال لها قيمة، بكم تفتحون باب الثمن؟ فقال واحد: بأربعة آلاف دينار، وقال آخر: بأربعة آلاف دينار وخمسمئة، ثم إذا بالوزير "المعين بن ساوي” قد جاء إلى السوق، فلما نظر إلى علي نور الدين واقفاً، قال لنفسه: ما باله واقف فإنه ما بقي عنده شيء يشتري به جواري. ثم سمع المنادي وهو واقف ينادي التجار حوله، وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.