كانت عقارب الساعة تشير إلى تمام العاشرة مساء، عندما أعلن المذيع الداخلي في مطار القاهرة وصول الرحلة المقبلة من مدينة الرياض، دقائق وهبط كل الركاب من الطائرة وتوجهوا لإنهاء إجراءات الوصول، باستثناء راكب، كانت علامات البؤس والشقاء ترتسم على وجهه، وهو يسير برفقة اثنين من رجال الإنتربول الدولي، وإسوارتان حديديتان تكبلان معصمه.

كان الموقف محرجاً للغاية ولافتاً، وحاول الراكب المقبوض عليه جاهداً إخفاء وجهه عن عيون الموجودين في المطار، والمتعطشة لمعرفة سر القبض عليه فور وصوله إلى القاهرة، فالرجل يبدو عليه الوقار والاحترام، وملابسه تدل على عراقة أصله ونسبه، ولم يخطر بباله أن يمر بهذا الموقف العصيب في أحد الأيام.

Ad

تقول أوراق الراكب الرسمية إنه الدكتور عبد الله، أستاذ سابق في كلية الطب بإحدى الجامعات العريقة بالقاهرة، ويسكن في حي الزمالك الراقي وسط القاهرة، وعاش حياة العزوبية مجدداً بعدما طلق زوجته، وسافر إلى السعودية منذ عامين. ولكن أكدت صحيفته الجنائية أنه مطلوب في القاهرة لتنفيذ أحكام قضائية عدة صادرة ضده من ثلاث محاكم مصرية، لامتناعه عن سداد نفقة شهرية لمطلقته وابنه الوحيد، كذلك متجمد نفقة وصل لمبلغ 50 ألف جنيه.

شريط الذكريات

في الطريق من المطار إلى مديرية أمن القاهرة راح الدكتور عبد الله يسترجع شريط ذكريات حياته، لا سيما تلك الفترة التي واكبت زواجه قبل سنوات، بالتحديد عندما كان أستاذاً في الجامعة يشار إليه بالبنان، كان مثار إعجاب طلابه وطالباته، لوسامته وأدبه الجم وخفة ظله وسهولة أسلوبه في تدريس مواد الطب للطلبة.

رغم اقترابه من عامه الأربعين، فإن أستاذ الجامعة العازب لم يفكر جدياً في الزواج، قرر أن يهب وقته للعلم ونقله لتلامذته ومرضاه في المستشفى التي يعمل فيها، كذلك عيادته الخاصة التي كان يعالج فيها معظم مرضاه بالمجان، ولكن من دون سابق إنذار خفق قلبه لـ «سناء» طالبة في كلية الطب، فتحت أبواب قلب الأستاذ العازب لاستقبال نسمات الحب.

لم يحتمل الدكتور عبد الله لوعة الحب طويلاً، أسرع إلى منزل والد تلميذته وطلب يدها للزواج. لم يحسب حسابا للفارق الاجتماعي الشاسع بينه وبين سناء، فهو ابن حي الزمالك الراقي وسليل عائلة الباشاوات الذين كانوا قريبين من دوائر الحكم في مصر إبان عهد الملكية، وحتى بعد ثورة يوليو 1952 التي أنهت حكم أسرة محمد علي وقضت على نظام الباشاوات، كان من بين أفراد عائلته وزراء وعلماء.

أما تلميذته فكانت من أسرة متواضعة، والدها من طبقة الموظفين البسطاء، بالكاد راتبه القليل يكفي أسرته المكونة من سبعة أبناء وزوجة، يقيمون في شقة صغيرة بحي شبرا الشعبي (شمال القاهرة).

ميزة سناء الوحيدة جمالها، فهي آية في الجمال، حقيقة لا يمكن أن ينكرها أي رجل يملك عينين. بطبيعة الحال، لم يتردد الأب في قبول العريس الثري ابن الذوات، الذي يسكن في الزمالك، وافق الأب بعدما أعلنت التلميذة بصمتها الممزوج بالخجل موافقتها على العريس، وبعد فرح أسطوري أقيم في أكبر فنادق القاهرة أحيته نخبة من ألمع نجوم الغناء في مصر، انتقلت سناء إلى بيت زوجها أستاذ الجامعة بمجرد عودتهما من شهر العسل، الذي أمضياه في جولة سياحية في أوروبا شملت لندن وباريس وروما وأثينا.

شريط الذكريات

عاش الزوجان في سعادة ما بعدها سعادة. كانت حياتهما هادئة جميلة. الدكتور عبد الله، يغدق على زوجته الجميلة بكل شيء، الحب والحنان والمال والمجوهرات الثمينة والملابس، أحدث الصيحات والسهر في الأماكن الفخمة، والزوجة الشابة تشعر وكأن أبواب السماء انفتحت لها، الحظ ابتسم لها وحققت كل ما تمنته قديماً في ضربة واحدة. كل ما تحلم به أي فتاة في مثل ظروفها تجده أمامها في غمضة عين، فأي سعادة عاشتها.

كانت حياة الزوجين أشبه بحلم جميل، أثمرت طفلاً جميلاً نال عطف والديه بغزارة وحنانهما، ومضت أيام السعادة على الأسرة الصغيرة سريعة كعادتها. وبمرور الأيام، انطفأت جذوة الحب في قلب الزوجين، ومرت على البيت السعيد سحابة حزن، اندلعت المشكلات الواحدة تلو الأخرى بين الدكتور وزوجته، خصوصاً بعد إنهاء الزوجة دراستها الجامعية وإصرارها على تحقيق حلم عمرها في ممارسة مهنة الطب، بينما أصر هو على أن مكان الزوجة الطبيعي بيتها لترعى طفلهما الوحيد، لا سيما أنها لا تحتاج إلى المال.

رفضت سناء هذا المنطق الرجعي، وتمسك الدكتور برأيه، وركبت رأسها وزادت من عنادها، وفشلت محاولات الأهل والأصدقاء الحثيثة لرأب الصدع بين الزوجين، وتقريب وجهات النظر بين الطرفين، ولم يكن أمام أستاذ الجامعة وزوجته سوى إعلان انهيار الأسرة الصغيرة، بعدما وصول الأمر بينهما إلى طريق مسدود، ورفض كل طرف التنازل ولو قليلا لتقريب وجهتي النظر، فاتخذ الدكتور عبد الله قراره الصعب والحاسم وطلق زوجته.

عناد وانتقام

انتهت قصة الحب الجميلة بعد ثلاث سنوات، ورغم أنها كانت نهاية متوقعة في ظل عناد الزوج والزوجة، وتمسك كل طرف برأيه، فإن سناء لم تصدق أن يطلقها زوجها بمثل هذه السهولة، ويستغني عنها وعن طفلهما الوحيد بهذه البساطة. شعرت بجرح كبير فور سماعها خبر طلاقها وبالمهانة وتملكها شيطان الغضب، لا سيما أنها توقعت أن يعود عبد الله سريعاً ويرتمي في حضنها. لكن عنادهما وضع كلمة النهاية سريعاً في علاقتهما.

عادت سناء إلى بيت والدها في حي شبرا، انزوت في حجرتها الصغيرة، انفردت بشيطانها، وكما يقولون: «الشيطان أستاذ الرجل وتلميذ المرأة». ظلت سناء تبكى بحرقة ولم تجف دموع الطبيبة الشابة إلا بعدما اتخذت قراراً لا رجعة عنه، هو الانتقام لجرحها وتأديب زوجها وتحويل حياته جحيماً لا يطاق ما دامت هي على قيد الحياة، خصوصاً بعد إخراجها من الجنة التي كانت تعيش فيها، لمجرد خلاف في الرأي، وطردها وابنهما شر طردة.

بدأت سناء معركتها مع زوجها السابق بمناوشات. في البداية، أطلقت إشاعات حول إعطاء زوجها دروساً خصوصية لطلبة كلية الطب، ثم قدمت شكاوى ضده إلى إدارة الجامعة. وعندما لم تؤت مناوشاتها ثمارها المرجوة، انطلقت إلى المحكمة لتقيم ضد طليقها دعوى نفقة لها ولصغيرها، كانت الطبيبة الشابة تعرف جيداً أن طريق المحاكم هو طريق العذاب، لا سيما للمترفين من أبناء الذوات مثل طليقها، الذي لم يدخل قسم شرطة في حياته، فكيف سيعيش حياته بين أروقة المحاكم بكل ما فيها من إهدار للوقت والكرامة أيضاً؟

عرفت سناء ابنة الطبقة الشعبية من أين تؤكل الكتف، وكيف تنغص حياة طليقها وتحرمه راحة البال، كما حرمها من السعادة الكاملة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إليها، لو وافق على عملها كطبيبة وأبقى عليها على ذمته. كان الانتقام هدفها الأسمى الذي لم تنكره. لم تنسَ يوماً أنه أخرجها من الجنة التي دخلتها وعاشت فيها أحلى أيام عمرها قبل أن تعود إلى الحي الشعبي.

أروقة محاكم

في البداية، استهان الدكتور عبد الله بأمر دخوله دنيا المحاكم، تصور أن كل ما عليه فعله مجرد عمل توكيل لمحام شهير، وأن الأمر سينتهي وهو جالس، واضعاً ساق فوق الأخرى. ولكن كما يقولون في المثل المصري «اللي على البر عوام». اكتشف عبد الله أن عليه نزول البحر والسباحة أحياناً مع التيار وفي غالب الوقت ضده، بحسب ما تمليه الظروف والأحداث.

ضاع وقت الدكتور عبد الله بين قاعات المحاكم وأروقة قلم المحضرين، والتوجه إلى النيابات والعودة منها وتصوير ملفات القضية، وإحضار الشهود والاتفاق معهم مرة والخلاف معهم مرات والبحث عن غيرهم، في دوامة لا تنتهي، فانهارت أعصاب أستاذ الجامعة الذي تبدلت حياته وأصبحت جحيماً. أهمل مرضاه ولم يعد يهتم سوى بشيء واحد، أن تنتهي هذه القضية بأي قرار. أراد أن يخرج من تلك الدوامة بأي خسائر. الأهم أن تنتهي، وأن يفيق من هذا الكابوس المرعب والهوة السحيقة التي وقع فيها بسبب طليقته.

وبعد رحلة عذاب حقيقية استمرت أشهراً، عاشها دكتور عبد الله في ساحات القضاء وأروقة المحاكم، قضت المحكمة لمطلقته بنفقة شهرية لها ولصغيرها قدرها 800 جنيه مصري، اعتقد أن الكابوس انتهى عند هذا الحد، وأن المبلغ سيوقف ملاحقة طليقته له، وأن هذا أقصى ما يمكن لطليقته فعله معه، ولم يتخيل أستاذ الجامعة أن نيران الغضب في صدر مطلقته لا يطفئها مال الدنيا كله، وأن انتقام المرأة الجريحة لا يتوقف بمثل هذه سهولة.

هجمات جديدة

زادت غارات الدكتورة سناء التي شنتها على طليقها، وراحت تلاحقه في كل مكان يذهب إليه، وتقدم ضده المزيد والمزيد من الشكاوى، حتى نجحت في تحويل حياته إلى عذاب لا يطاق، فلم يجد دكتور عبد الله أمام حصار طليقته وضرباتها المتتالية سوى الانسحاب من ساحة القتال بأقل الخسائر. بالفعل، اتخذ أستاذ الجامعة قراره بالهروب والسفر بعيداً عن مصر كلها، حتى يرتاح من مطلقته ومشاكلها التي لا تنتهي. قدم استقالته من الجامعة المصرية، وأغلق عيادته الخاصة وغادر إلى المملكة العربية السعودية، والتحق بالعمل في إحدى جامعاتها، آملا في بداية جديدة بعيداً عن مطاردات طليقته.

تصور الدكتور عبد الله أن مغادرته مصر ستنهي مشاكله كافة مع زوجته السابقة، ولكن على العكس زاد هروبه من شراسة الدكتورة سناء التي التقت رغبتها في مزيد من الانتقام من طليقها مع أحد المحامين المحترفين في هذا النوع من القضايا، وعدها أن يساعدها حتى تلقي بطليقها في غياهب السجون «وكله بالقانون»، على حد قوله لها.

لم تمض أشهر قليلة منذ لقاء الدكتورة سناء بالمحامي المحترف، حتى كانت المطلقة الجريحة تمسك بين يديها بثلاثة أحكام قضائية بالسجن ضد زوجها السابق، لامتناعه عن دفع نفقتها ونفقة صغيرها الشهرية، وكذا متجمد النفقة الذي وصل إلى 50 ألف جنيه، رغم أن الدكتور عبد الله كان يرسل لمطلقته وابنه الصغير كل شهر النفقة التي قررتها المحكمة وهي 800 جنيه.

انقلاب السحر

توقف شريط الذكريات في رأس الدكتور عبد الله المهدد بالسجن بعد إلقاء القبض عليه فور وصوله إلى مصر. كاد عقل الرجل يطير فهو متأكد من دفعه جميع مستحقات ابنه وطليقته، لذلك وكّل محامياً شهيراً آخر لينقذه من السجن هذه المرة، ولكن باءت محاولات المحامي بالفشل في إخراج موكله من حبسه ولو بدفع كفالة كبيرة. كان الحل الوحيد أن يعثر المحامي الشهير على شيء ما ينقذ موكله ولو بصورة مؤقتة. وبالفعل انطلق يسابق الزمن ويدرس أوراق القضايا التي حصلت فيها سناء على الحكم بحبس طليقها ليكتشف مفاجآت مذهلة.

اكتشف أن سناء زوّرت مستندات قدمتها للمحاكم، ومن بينها توكيلات من طليقها لها حتى بعد تاريخ طلاقهما. لم يكذب المحامي خبراً، فأسرع إلى النيابة وقدم بلاغاً بكل ما اكتشفه من تزوير طليقة موكله، وبدأت النيابة العامة رحلة البحث في أوراق القضايا التي حصلت الدكتورة سناء بموجبها على أحكام بالسجن ضد زوجها السابق، وتم استدعاء الطبيبة الشابة للتحقيق معها، فارتبكت وفشلت في إنكار قيامها بالتزوير في محاضر رسمية، وقدمتها النيابة لمحاكمة عاجلة وأصدرت المحكمة قرارها بحبس الدكتورة سناء سنة مع إيقاف التنفيذ حرصاً على مستقبلها ومكانتها العلمية المرموقة.

في الجهة الأخرى، تحطمت قيود الدكتور عبدالله بعد الحكم على مطلقته، شعر بالسعادة لنجاح أول ضربة له في معركته الطويلة مع مطلقته التي تسببت في دخوله السجن للمرة الأولى في حياته، أخبر محاميه أن الضربة الأولى لم تشف غليله بعد، خصوصاً أن الحكم بحبس طليقته كان مع إيقاف التنفيذ، ما يعني أنه لن يزج بها في السجن، فوجّه محاميه ضربة جديدة للطبيبة الشابة، إذ أصدرت محكمة أخرى بهيئة مغايرة قراراً جديداً بحبس الدكتورة سناء سنة مع إيقاف التنفيذ في قضية تزوير أخرى قامت بها المتهمة في أوراق قضيتها السابقة مع طليقها.

هنا أصبحت الدكتورة سناء في موقف صعب لا تحسد عليه، فالقانون لا يسمح بإيقاف التنفيذ على متهم في قضيتين، وتقدمت النيابة العامة بطلب لمحكمة جنايات القاهرة بضرورة تنفيذ أي من الأحكام الصادرة ضد الدكتورة سناء، ذلك أن تركها حرة طليقة مخالف للقانون، وهكذا انقلب السحر على الساحر، فسناء التي خططت وسعت إلى سجن طليقها بالسبل كافة، أصبحت الآن تحت رحمته.

عندما استدعت محكمة جنايات القاهرة طرفي المعركة، وعرض رئيس الجلسة عليهما الصلح وإنهاء الحرب بينهما، وأن ترضخ الدكتورة سناء بالنفقة الشهرية المقررة لها ولصغيرها بحكم المحكمة، وافق الدكتور عبد الله بعدما رق قلبه، إلا أن طليقته رفضت الرضوخ وقررت استمرار المعركة، وطالبت بزيادة مبلغ النفقة الشهرية لها ولصغيرها إلى 2000 جنيه، وهنا أعلن رئيس المحكمة قراره بحبس المتهمة في قضية تزوير المحاضر الرسمية.

غادرت الطبيبة الشابة قاعة المحكمة بصحبة رجال الشرطة لإيداعها سجن القناطر الخيرية، لكن قبل أن تغادر التفتت إلى طليقها قائلة في غل:

- ما تفرحش أوي... كلها سنة وخارجة لك.